التعليم من أجل التحرر
نشر بتاريخ: 2023-06-18 الساعة: 13:30
دعاء حسن براهمة
إن الطابع القهري الذي يطبع المؤسسات التعليمية في العالم الثالث كما سماه باولو فريري: "التعليم البنكي"، الذي أساسه اعتبار المتعلمين المقهورين في المدارس كما لو أنهم حسابات بنكية يتم إيداع المعرفة في أذهانهم من قبل الأساتذة، وكان تصور"آيديولوجية الاضطهاد"- كما يسميها فريري- أن المعرفة المقدمة للطلاب في المدارس، هي هبات يمنحها أولئك الذين يعتبرون أنفسهم ضليعين في المعرفة، إلى من يعتبرونهم لا يعرفون شيئا، والحل كما يرى فريري، في تحويل هذه الممارسات القهرية في نظام التعليم البنكي، إلى تعليم من أجل خلق الوعي الناقد على أساس من التعيلم التحرري، والذي يمر عبر الإيمان بالإنسان وخلق الوعي الثقافي والسعي نحو الحرية.
من هنا يمكننا تعريف التعليم الحواري بأنه إشراك الطلاب في عملية مستمرة من الاستفسارات المشتركة على شكل حوار وعملية التدريس فيه تنطوي على جذب الطلبة إلى عملية بناء المعرفة المشتركة، للتخلص من التعليم التلقيني أحادي الطرف والذي يكون فيه المتعلم مستمعا تحت مظلة الصمت.
هل التعليم حديث للآخر أم حديث مع الآخر؟
هل تعليم المقهورين، هو حديث لهم أم حديث معهم؟
إن شعوب دول العالم الثالث قد سلبت حقوقهم، وحرموا من ممارسة حريتهم، وأي مقهور يسعى لتحرير نفسه، ولكن ما حدث أن المقهورين سعوا لتحرير أنفسهم وممارسة هذا القهر على غيرهم، لأن مستوى الوعي الثقافي كان ضيقا. إن التحرر من القهر جاء لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحريرا للقاهر والمقهور، فيجب على المقهورين أن يتحرروا من القهر، ويحرروا قاهريهم من ذلك، لذلك جاءت فلسفة باولو فريري مؤكدة على تربية المقهورين عن طريق التعليم القائم على الحوار، حيث في الحوار يأتي التكامل الثقافي، ومساعدة المتعلمين المقهورين بزيادة وعيهم بواقعهم واستشعار قدرتهم على التغيير، وتخليصهم من التبعية، وبث روح الأمل بداخلهم بنيلهم للحرية، وهذا يتطلب بشكل جاد ضرورة وحدتهم وتكاتفهم.
فإذا كان القاهر يسلب الإنسانية ويكرس ثقافة الصمت، فإن الحوار ظاهرة إنسانية، لأن الوجود الإنساني في الأصل ليس صامتا فهو ناطق ومفكر وعامل على تغيير وتطوير المجتمع، كما قال فريري:"التعليم لا يكون محايدا، إما أن يكون تعليما للحرية أو تعليما للاستعباد".
ولتحقيق كل ذلك فلا بد من الإيمان العميق بالإنسان كشرط للتعليم التحرري: يلخص فريري نظرته عن الإنسان بمقارنة بسيطة بين الإنسان من جهة والنحل والعنكبوت من جهة أخرى، فيقول: إن أصغر نحلة في بناء خلاياها تحرج أكبر معماري في العالم، وإن أصغر عنكبوت في غزل شبكته يحرج أكبر نساج عرفه التاريخ. لكن النحل والعنكبوت لا يتخيلان هندسة ما ينويان القيام به، فهما فاقدان لمتعة التخيل. وعلى العكس من ذلك، فالإنسان يمتلك ما لا يمتلكه الحيوان، وخلاصة الفكرة أن الإنسان يمكّن الإنسان:"أنسنة العالم"، بينما لا يقدر الحيوان على "حيونة العالم".
من أجل تحقيق ما سبق، يجب تطبيق نموذج النقد الحواري في إعداد المعلمين، من أجل نقل السياق التحرري التشاركي إلى بيئة الصف، كنقطة التقاء وتكامل بين أصول علم التربية وتحرر الإنسان وتمكينه، ففي ضوء هذه التحديات والتغيرات الكونية في العلم والمعرفة والتقنية والاتصال والتواصل، أصبحت الحاجة ملحة وضرورية إلى معلم ذي إمكانيات وقدرات نوعية تواكب التطورات التي يشهدها العالم.
ويتمثل ذلك تربويا في تعليم حواري تشاركي نشط، يشترك المتعلمون في العملية التعليمية بصورة فعالة بعيدا عن كونهم متلقين سلبيين أو مضطهدين معرفيا. فالتعليم هو وسيلة الحرية والوعي الناقد وأنسنة الإنسان، وأداة لتمكين الطالب، إذا قام على أسس تفاعلية حوارية تأملية تنويرية، تحرره من الوعي الوهمي المرتكز على التعلم البنكي والسلطة المعرفية للمعلم، بغية تحقيق غرض التربية الأجل وهو: تحرر الإنسان وتمكينه.