فيتنام.. في رام الله!
نشر بتاريخ: 2023-06-12 الساعة: 08:37
حسن حميد
أعترف بأن بهجة لم أعرفها من قبل جالت بي فجعلتني كائنا من رذاذ نثيث وعطر خفيف، وأن روحا آسرة سرت في كياني، حين قرأت خبرا جاء في سطر طويل فحواه، أن كتابا فيتناميين، يزورون البلاد الفلسطينية العزيزة، وأن زيارتهم الثقافية هذه هي الأولى للبلاد العربية.
لقد ضج قلبي بما فيه من المعاني الثقال، حالما لاح لي اسم فيتنام، البلاد التي قرت في البال والوجدان والثقافة منذ بداية صراع الشعب الفيتنامي مع أقوى قوتين غربيتين، إحداهما قديمة هي فرنسا التي احتلت فيتنام في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (1885)، وثانيتهما حديثة، هي الولايات المتحدة الأميركية التي غذت انشطار البلاد الفيتنامية إلى جنوب وشمال، فأحالت البلاد الفيتنامية إلى ساحة صراع بين السلاح الشرقي (روسيا، والصين) والسلاح الغربي (الولايات المتحدة الأميركية)، وفي المآل، وهنا الغاية، هزم الاحتلال الفرنسي في خمسينيات القرن العشرين (1954)، وهزم الاحتلال الأميركي في بدايات عقد السبعينيات من القرن العشرين (1973)، وبقيت فيتنام بأرضها وشعبها، وعَلمها، وتاريخها القائل بأن البلاد خضعت للصينيين ألف سنة، ثم استقلت بعد نضال مشرف، وأنها خضعت لليابانيين سنوات، ثم استقلت وأنها عرفت حروبا أهلية عدة، ثم استقر السلام.
مجيء وفد الكتاب الفيتناميين إلى فلسطين حدث وظاهرة ثقافية من أهم عناوينها صلادة الشعوب وقوتها، وإخلاصها للمبادئ، وحمايتها للتاريخ عبر أجيال توارثوا معاني الوطنية حتى صارت تقاليد وعادات وتعريفا للإنسان الفيتنامي، وما قاله الكتاب الفيتناميون للكتاب الفلسطينيين وما تبادله الطرفان يعد وثيقة إنسانية شديدة الغنى والخصوبة، فما إن رأى الكتاب الفيتناميون المستوطنات الإسرائيلية حتى صرخوا بملء أفواههم هذه: تشبه المستوطنات التي أقامها الفرنسيون والأميركان فوق بلادنا، إنها أمكنة سطحية قشرية وسوف تزول من فوق أرضكم الفلسطينية كما زالت مثيلاتها من فوق أرضنا الفيتنامية. وقال كتابنا الفلسطينيون لهم هذه المستوطنات الإسرائيلية هي أشبه بالمستوطنات التي أقامها الفرنجة الذين احتلوا البلاد الفلسطينية (200) سنة، وسوف تزول مثلما زالت مستوطنات الفرنجة ومستوطنات المحتلين الإنجليز الذين سلموا البلاد الفلسطينية في أبشع صورة لخديعة ظالمة عرفها التاريخ الإنساني. وما إن رأى كتاب فيتنام المزارعين الفلسطينيين في حقولهم حتى صرخوا: هؤلاء هم أهل الأرض الذين يشبهون أجدادنا وآباءنا الذين حافظوا على الأرض والحياه بالزراعة والانشداد إليها رغم وجود القوات المحتلة من فرنسيسن وأميركان!
وقال الكتاب الفلسطينيون، إن قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي تقتلهم في حقولهم، وتخرب مزروعاتهم، وتعيث فيها فسادا، حتى صارت حقول الورد الذي يصدر إلى البلاد الأوروبية ممرات وطرقا للدبابات والمدرعات الإسرائيلية، ومع ذلك هم صامدون في أرضهم، يزرعون، ويسقون، ويحزمون حزم الورد بألوانه الساحرة.. ويصدرونه.
وحين رأى الكتاب الفيتناميون المخيمات الفلسطينية، وعرفوا وجوه الحياة فيها، قالوا: إنه عشق الوطن الذي غدا صورا للصبر والثبات، لقد حدثنا أجدادنا وآباؤنا بأنهم عاشوا في مخيمات مثل هذه المخيمات وصبروا، وزرعوا، وفتحوا المدارس حتى ظفروا بالنصر، وقال الكتاب الفلسطينيون لهم، إن هذه المخيمات تتعرض يوميا لأبشع حالات العنصرية والمطاردة، والتخويف، وهدم البيوت، والحصار، وقتل الشبان، والقضم.. ومع ذلك هي صابرة بأهلها الذين امتلكوا كتاب الوطنية وشدوا عليه بالذراعين.
وحين حدثهم كتاب فلسطين، عن الأمهات، والأخوات، والبنات اللواتي يقتلهن الإسرائيلي في الشوارع، وقرب مؤسسات العمل، وعند الحواجز، وفي الجامعات، قال كتاب فيتنام، إنهن يشبهن أمهاتنا وأخواتنا اللواتي قتلهن الفرنسي والأميركي وهن يشتلن شتول الأرز، ويحملن الأطفال فوق ظهورهن!
وحين استمع الكتاب الفيتناميون لقصائد محمود درويش، وتوفيق زياد، وعز الدين المناصرة، وأحمد دحبور، ومراد السوداني، وقصص محمود شقير، وغسان كنفاني، وعبدالله تايه، ورشاد أبو شاور، ويحيى يخلف.. في الأمسيات التي عاشوها قالوا بفرح: هذه قصص أجدادنا وآبائنا، القصص والقصائد التي تدور حول الأرض، والفداء، والصبر، والمقاومة، والكرامة.
بلى، هذه زيارة تأتي ردا لزيارة قام بها كتاب فلسطينيون (من بينهم خالد أبو خالد، وناجي العلي) قبل 42 سنة، فالفلسطينون لم يأكلوا نبات اللوتس كي ينسوا، إنها توأمة المعنى التي مثلها كتاب فيتنام الذين جاؤوا محمولين على كف العشق الفلسطينية، ليروا صورة أخرى لانتزاع شرف الاستقلال من محتل آخر، هي مدهشة وأكثر، ويكمل رتوشها الأخيرة الفلسطينيون الصارخون بالأنفة كلها: بلادي، بلادي!
mat