عن «العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة»
نشر بتاريخ: 2023-03-21 الساعة: 01:49
عبد الغني سلامة
"العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة"، كتاب جديد صدر عن دار طباق للنشر والتوزيع، للباحث قتيبة مسلم، وهو أسير فلسطيني، ما زال يقبع في سجن "هداريم"، يأتي الكتاب في 218 صفحة من القطع المتوسط، يبدأ بمقدمة بقلم عيسى قراقع، ويتكون من أربعة فصول، الأول، وعنوانه: العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة، والثاني عن دور التيار الشيوعي في مواجهة المشروع الكولونيالي الصهيوني، والثالث، وعنوانه: البدو، صراع المكان والأيديولوجيا، أما الفصل الرابع فجاء بعنوان: النظرة الصهيونية للفلسطينيين العرب، وفي كل فصل يبدأ بمقدمة استهلالية، وشرح الإطار النظري، وأهداف البحث، ومشكلاته، وفرضيته، واستعراض للدراسات السابقة، ثم يقسمه إلى فصول متخصصة، وينهيه بخلاصة أولية، ثم قائمة بالمراجع.
تناول الكتاب موضوع عسكرة المجتمع الإسرائيلي، وبيّن فيه كيف تحولت الدولة إلى منظومة دكتاتورية عسكرتارية، مليئة بالمستوطنات والحواجز الأمنية والسجون والمخابرات والجدران والجيش، بشمولية عسكرية امتدت حتى القضاء والبرلمان والمؤسسات والحياة الاقتصادية والاجتماعية، وصار الجيش يسيطر على كل شيء تقريباً، خاصة قرارات الحرب وكيفية إدارة الصراع. ويؤكد أن الرموز والمفردات الدينية هي التي صاغت ووجهت المشروع الصهيوني منذ بداياته، وأن هذا المشروع استمد روحه وقيمه ومبرراته من الخرافات والشعارات الدينية ذات المنزع العنصري الاستعلائي والعنيف.
وتكمن أهمية الكتاب في تسليطه الضوء على البنية الأيديولوجية للصهيونية وأصولها الدينية، وبنائها الفكري والعقائدي والسياسي، وممارسات إسرائيل الإجرامية خاصة تجاه الفلسطينيين، وربطه بين تصرفات جنود وضباط الجيش وبين العقيدة الدينية التي يسير عليها، وهذه العقيدة مبنية على العنف الشديد والدم والقهر والاستعلاء، وقد صارت مرجعية الجيش في سلوكه اليومي، بحجة أنها محمية من الرب، وبالنص المقدس.
وإضافة إلى ما تقدمه هذه الدراسة الرصينة من معرفة، فإن قيمة الكتاب في تحويل وترجمة هذا الفهم والتفسير إلى حالة مقاومة وكفاح وتصدي للرواية الصهيونية بعقلية مبنية على فهم علمي واعي متقدم، وبروح فلسطينية إنسانية.
والنطاق المكاني لهذه الدراسة الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، وتتناول الجيش منذ تأسيسه وحتى العام (2016)، وقد استخدم فيها المنهج الوصفي التحليلي، والمنهج التاريخي، بما توفر للباحث من كتب ودراسات في مكتبة سجن "هداريم".
في المقدمة يتناول الكاتب فكرة بن غوريون في إقامة جيش محترف، بعد حلّه للميليشيات اليهودية المسلحة وقصفه سفينة محملة بالذخائر والمهاجرين تابعة لإحدى العصابات الصهيونية، وقد أطلق عليه تسمية جيش الدفاع، في محاولة خداع وإيهام بأنه جيش للدفاع فقط، وهي تسمية ذات دلالة على الذهنية والسلوك الإسرائيلي، مبنية على الادعاء بالضعف والمظلومية وأن الدولة تحت التهديد المستمر، وأنها تتعرض لخطر وجودي دائم، وبالتالي لا يمكنها الاعتماد على الآخرين، بما في ذلك حلفاؤها المخلصون. (وفي الحقيقة لا تتعرض لأي تهديد جدي، إنما هي دولة غير مقبولة).
وقد أراد بن غوريون تأسيس جيش لا علاقة له بالأحزاب والتشكيلات القائمة، ويخضع لرئيس الحكومة مباشرة، لحماية الدولة من أي تصدعات أو صراعات قد تنشب بين التيارات اليهودية، وأراده أن يكون جيشاً للشعب، باعتباره شعباً محارباً، فقام بفرض الخدمة الإلزامية، ليصبح الجيش أداة صهر قومية، وكرمز مركزي للتضامن والوحدة اليهودية.
لذلك، يحتل الجيش المكانة المركزية في إسرائيل، وهو منبع القيادات السياسية والحزبية، بل يمكن القول: إن إسرائيل عبارة عن جيش له دولة (وليس العكس كما هو حال الدول الطبيعية)، وبذلك صار الشعب والجيش وجهين لعملة واحدة، تهيمن عليهما ما يمكن تسميته الرباعي المقدس، وهي: العقيدة اليهودية، والقيم الذكورية، والخدمة العسكرية، والانتماء للجماعة.
أما العقيدة الأمنية للجيش فتقوم على نوعين من الردع: ردع بالحرمان، أي منع الخصوم من تحقيق أي مكاسب، وضرب الخصم استباقياً، أو تهديده بالضرب إذا ما فكر بالتحرك. والردع بالعقوبة، كما يفعل مع حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، باستخدام مفرط للقوة، في حقيقتها عمليات انتقام.
ويبيّن الباحث أن مفهوم الأمن الإسرائيلي يختلف عن أي مفهوم أمني في أي دولة طبيعية، لأنه مرتبط بنظرة الإسرائيليين لأنفسهم أولاً، ثم للآخرين، وهي نظرة عنصرية قائمة على أساس تفوق اليهود، وأنهم شعب الله المختار، وأن الآخرين مجرد أغيار خلقهم الله لخدمة اليهود. وقد كانت التوراة أحد أهم مكونات العقلية الصهيونية العسكرية، ومسوغها الأخلاقي والقيمي والديني فيما اقترفته من أفعال.. ولعل أسطورة تدمير "يوشع" لأريحا وإبادة سكانها ما زالت الناظم القيمي للجيش الإسرائيلي. لذلك، وانطلاقاً من هذه النظرة العنصرية الفوقية المدعومة بنصوص توراتية، صارت إسرائيل ترى نفسها دولة فوق القانون الدولي، وفوق القيم الأخلاقية والديمقراطية، وتمارس كل ما يحلو لها من إجرام دون أي وخزة ضمير، أو إحساس بالذنب، بل إنها تعتبر الحرب مكوناً ثابتاً في تاريخ البشرية، وتعتبر الأخلاق شيئاً عاطفياً مشوهاً والحرب هي القادرة على شفاء الإنسان من هذا التشوه، وتعتبر أن قتل العربي قمة الأخلاق، وقد جسدت عقليتها الأمنية العنصرية في عمليات التطهير العرقي وارتكاب أبشع المجازر إبان النكبة، وما زالت إلى اليوم، تمارس الإجرام ذاته، خاصة مع التواطؤ الأميركي والدولي إزاء ممارساتها الإجرامية.
وفي خطابها الداخلي الموجه نحو جمهورها، تسعى إسرائيل إلى شرعنة وتبرير ممارسات الجيش للعنف والقتل والتدمير، بالاستناد إلى الخرافات الدينية والنصوص التوراتية، أو تبريرها بحجج أمنية، إلا أن ذلك أدى إلى تصدعات مهمة داخل المجتمع الإسرائيلي، فالديمقراطية والتحرر والقيم المتحضرة التي تزعم إسرائيل أنها تمثلها لا يمكن أن تجتمع مع القتل والعنصرية والاحتلال والتطهير العرقي، ولا يوجد شيء اسمه القتل الديمقراطي، كما أن هذه الممارسات أضرت بالمجتمع الإسرائيلي نفسه، وشوّهته، ونزعت عنه سمات الإنسانية، وحولت الجنود إلى قتلة، وحولت المجتمع إلى ثكنة عسكرية، وجعلته يقبل على نفسه كل تلك الجرائم.
وفي خلاصة الفصل يؤكد الباحث على فشل فكرة تحويل الجيش إلى بوتقة صهر قومي، وزيف شعارات "أخلاقية الجيش"، و"طهارة السلاح"، التي تفضحها ممارسات الجيش وانتهاكاته لحقوق الإنسان، وتعدياته على القانون الدولي، وضربه عرض الحائط كل القيم الإنسانية والحضارية والديمقراطية، والتي إن كان يحاول إخفاءها وتبريرها سابقاً بخطاب إعلامي دوغمائي، إلا أنه اليوم، ومع صعود اليمين المتطرف صار يتغنى بها، ويجاهر بها دون خجل، ويؤكد أنها مستمدة من التوراة.