الانتفاضة وصناعة التاريخ
نشر بتاريخ: 2022-12-11 الساعة: 13:42باسم برهوم
بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982، وتوزع قواتها في عدة دول بعيدا عن دول الطوق، وأصبح مقر القيادة الفلسطينية في تونس على بعد 4 آلاف كيلومتر من فلسطين، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية بحاجة لحدث وطني كبير، إلى حدث أقرب إلى المعجزة ليمكنها من استعادة المبادرة السياسية، والعمل على قطف الثمار. لم يكن الخروج من بيروت المنعطف الصعب الوحيد، فقد حدث انشقاق داخل حركة فتح عام 1983، وصاحبه انقسام في منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يلتئم شمل المنظمة إلا في عام 1987، عشية اندلاع الانتفاضة.
أما الواقع العربي فلم يكن أفضل، بعد توقيع مصر معاهدة سلام وإبعاد الخيار العسكري العربي الرسمي من الصراع. كما كانت العراق لا تزال منشغلة في الحرب مع إيران، وهي الحرب التي لم تستنزف العراق وحسب بل والعالم العربي أيضا. وبما يتعلق بالحالة الدولية، فالحليف السوفييتي كان بدوره منهمكا منذ عام 1985 في عملية إعادة البناء "البيريسترويكا"، التي كان يقودها آخر زعيم سوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وكانت الولايات المتحدة الأميركية، مع إدارة الرئيس ريغان، تتغول على الساحة الدولية وتهيئ الظروف لنظام دولي تقوده هي منفردة.
في مثل هذه الظروف غير المواتية انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الشعبية العظيمة، وربما كان أول من أدرك أهميتها الاستثنائية وكان ينتظرها منذ زمن، هو ياسر عرفات، وأدرك شموليتها وطبيعتها الشعبية السلمية، فسلاح الفلسطيني كان الحجر، والإضراب، والمظاهرات، وإغلاق الطرق أمام جيش الاحتلال، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، والعصيان المدني والامتناع عن دفع الضرائب للمحتل. فالانتفاضة بحد ذتها صناعة تاريخ، فهي الأولى بهذا الحجم والاتساع والقوة منذ احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية في حرب حزيران 1967.
الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة كان يصنع لحظة تاريخية فارقة، كانت كل الأطراف، وفي مقدمتهم دولة الاحتلال تدرك أن الأوضاع بعد الانتفاضة لن تكون كما كانت قبلها، أما قيادة منظمة التحرير، وخاصة أبو عمار فكان يريد قطف ثمار هذه المعجزة الشعبية قبل أن تدخل الانتفاضة في حالة مراوحة أو تتغير الظروف العربية والدولية بما قد يحبط تحقيق إنجاز بحجم الحدث التاريخي، كانت النهاية السلبية التي انتهت إليها ثورة 1936 - 1939 في ذهن عرفات، ولم يكن يريد أن يكرر التاريخ نفسه.
لقد حققت الانتفاضة الشعبية الأولى، وعلى الفور أربعة إنجازات مهمة، الأول: وحدت الانتفاضة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده بطريقة شاملة لم يسبق لها مثيل. والإنجاز الثاني: أدركت إسرائيل بفعل الانتفاضة أنها لن تستطيع مواصلة احتلالها وحكم الشعب الفلسطيني، فقد قال شمعون بيريس بصراحة ووضوح إن إسرائيل يجب أن توقف سيطرتها على شعب آخر. أما الإنجاز الثالث فقد منحت الانتفاضة الشعب الفلسطيني فرصة نادرة أن يمتلك مشروعا وطنيا محددا ومتفقا عليه من كافة فصائل منظمة التحرير والغالبية الكبرى للشعب الفلسطيني، وهو المشروع الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في تشرين الأول / أكتوبر عام 1988، ويستند لقرارات الشرعية الدولية وينص على ثلاثية حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. أما الإنجاز الرابع وربما الأهم أن الانتفاضة فتحت الباب أمام اعتراف الولايات المتحدة الأميركية ودول غرب أوروبا بمنظمة التحريرالفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني وإعطاء الشرعية للنضال الوطني الفلسطيني.
وبعد أن كاد الشعب الفلسطيني يحقق ما كان يحلم به منذ عقود، جاءت التطورات إقليمية ودولية على غير ما أراد الشعب الفلسطيني، اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج الأولى، وما نجم عنها من انقسام عربي عميق. وبالتزامن مع كل ذلك كان الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ينهاران ويتهاويان، وهو الحليف الدولي الأهم للحركة الوطنية الفلسطينية، وأخيرا تفردت الولايات المتحدة الأميركية بقيادة النظام الدولي.
بالضرورة أن نتذكر هنا أن مؤتمر مدريد للسلام جاء بمبادرة من الرئيس جورج بوش الأب عام 1991 بعد أن حققت بلاده، على رأس تحالف دولي من 30 دولة، انتصارا في حرب الخليج وحسمت زعامتها للعالم. هذه التطورات فرضت معادلة جديدة حرمت الشعب الفلسطيني من أن يمثل في المؤتمر بوفد مستقل، واضطرت المنظمة القبول بفكرة أن يكون التمثيل الفلسطيني ضمن الوفد الأردني.
رغم هذه التطورات السلبية، واصل الشعب الفلسطيني انتفاضته، ولو بوتائر مختلفة مع وجود انقسام ميداني في ظل إصرار حماس في حينه على أن تنفرد في فعالياتها بعيدا عما تقرره القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة. عرفات كان يدرك أن انتفاضة أخرى بهذا الحجم والمواصفات قد تحتاج لسنوات طويلة قبل أن تتكرر، كان
mat