فيلم مقاطعة و"صندوق بنادورة"
نشر بتاريخ: 2022-11-24 الساعة: 12:12عمر حلمي الغول
حينما تقف امام أكاذيب أنظمة الرأسمالية، وادعاءاتها بـ"الدفاع" عن الديمقراطية، وحقوق الانسان، وحرية الرأي والتعبير، وترى وتشاهد بأم العين حجم التناقض الفاضح بين الواقع، وما تتضمنه دساتير وتشريعات تلك الدول، لا أقول انك ستصدم، وانما ستتعمق لديك رؤيتك وقناعاتك، ان المنظومة الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، أ|لد أعداء الديمقراطية، ولا تؤمن بها، وانما تستعملها لتحقيق مآربها وغاياتها الربحية الاحتكارية، ولنهب واستغلال الشعوب المسحوقة، وللبطش بالانظمة والقوى المناضلة من اجل حريتها واستقلالها وسيادتها، وهي الأكثر عنصرية تجاه مكونات مجتمعاتها ذاتها.
ما تقدم، له عميق العلاقة بما شاهدته في فيلم "مقاطعة"، الذي قامت منظمة "جست فيجن" بتبني فكرته وإخراجه من خلال مبدعيها المختصين، والذي عرض يوم الاحد الموافق السادس من نوفمبر الحالي في مؤسسة "المطل" في مدينة رام الله، واخرجته الفنانة جوليا باشا، وانتجه كل من سهاد بعبع ودانيال جاي.تشالفين عام 2021، وعلى مدار ساعة من الزمن عرض الفيلم صورة مصغرة عن عمليات بتر وتمزيق معايير الديمقراطية الأميركية ذاتها، التي تتنافى مع قرار المحكمة الأميركية العليا عام 1982 الخاص بالمقاطعة، حيث اعتبرت "اعمال المقاطعة من اسمى اشكال الخطاب السياسي، التي يكفلها ويحميها التعديل الدستوري الأول". وفجأة في السنوات الأخيرة باتت اعمال المقاطعة وحرية الرأي والتعبير "عملا من رجس الشيطان"، تمثل في هجوم غير مسبوق من قبل 33 ولاية أميركية تحارب وتستهدف حرية الكلام، والدفاع عن المظلومين والمسحوقين والواقعين تحت نير الاستعمار الإسرائيلي، وفضح وتعرية جرائم الحرب التي ترتكبها عصابات المستعمرين بدعم من الحكومات المتعاقبة. وقفت خلف الهجوم منظمة "الايباك" الصهيونية واقطاب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي المتطرفين، والمرتشون، الذين ضربوا بعرض الحائط مواد الدستور الأميركي.
ومنذ ظهرت للسطح منظمة BDS عام 2005، ومع تحقيقها نجاحات مهمة من خلال تسليطها الضوء على انتهاكات وجرائم إسرائيل المارقة والخارجة على القانون، وحالت دون تعاون العديد من الشركات مع الاستعمار الاجلائي والاحلالي الصهيوني، وأوقعت خسائر حقيقية في المصانع والشركات الإسرائيلية العاملة في المستعمرات المقامة على أراضي دولة فلسطين المحتلة عام 1967، وأركان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتعاون مع حلفائهم في دول الغرب الرأسمالي عموما وأميركا خصوصا يعملون جميعا كل من موقعه، وبالتكامل فيما بينهم لحصار وخنق المنظمة، اتهامها بما ليس فيها، ولا يمت بصلة لها كمنظمة "معادية للسامية"، وقلب الحقائق، وسن القوانين الجائرة والمتناقضة مع ابسط معايير الديمقراطية، التي لم تقتصر على الـ33 ولاية أميركية، وانما امتدت لبعض برلمانات الدول الأوروبية، والبرلمان الاتحادي الأوروبي.
جمالية وابداع الفيلم، انه يوثق لثلاث تجارب من ولايات أميركية مختلفة، تتعرض النماذج لذات القهر، واستخدام سلاح القوانين الجائرة، والمتناقضة مع روح الدستور الأميركي. وهي تجارب حقيقية، وأصحاب النماذج الثلاث هم: الان ليفيريت، مالك صحيفة محلية اسمها "اركنساس تايمز"، هذا الرجل مستاء ومنزعج من دور المنظمات اليمينية المتطرفة في الانتشار السريع وسن القوانين المكبلة لحرية الرأي والتعبير. لذا صمم على مواجهتها والتصدي لها من خلال القضاء، حتى لو أدى به الامر إلى الذهاب للمحكمة العليا.
النموذج الثاني اخصائية النطق بهية عماوي، فلسطينية الاصل أميركية، تعمل في المدارس الحكومية في مدينة اوستن، وهي ام لاربعة أطفال. تم طردها من عملها، لانها رفضت التوقيع على تعهد بعدم المقاطعة. كيف تقاطع المنظمة التي تفضح وتعري الدولة اللاشرعية وناهبة ومستعمرة ارضها وشعبها، لذا اصرت على موقفها، ولجأت للقضاء ضد ولاية تكساس كلها.
والنموذج الثالث ميكيل جورداهل، محام يعمل مستشارا للحقوق المدنية في ولاية ايرزونا، يقدم خدمات قانونية للسجناء، عندما حان تجديد عقده مع الولاية، صدم نتاج وجود فقرة تطالبه بعدم المشاركة في مقاطعة إسرائيل، لكنه يرفض، رغم ان زوجته يهودية، ووالديها يقيمان في إسرائيل، وقام بزيارتهما، ورأى بام عينه حجم وبشاعة الإرهاب الإسرائيلي، وأصر على الذهاب للقضاء رافعا شكوى ضد ولاية ايرزونا.
وهناك شخصيات أخرى ساهمت بدعمهم، والتضامن معهم، مكنتهم في نهاية الفيلم من الانتصار على "صندوق باندورا"، وهو الذي يرمز في الميثولوجيا الاغريقية الى كافة أصناف الشرور البشرية، التي يمكن استخدامها لاسكات أصوات المعارضة بجميع اشكالها، وخاصة حرية الرأي والتعبير ورفض الظلم والنضال ضد دولة التطهير العرقي الإسرائيلية.
نعم قصص الفيلم وعرض النماذج الثلاثة والربط بينها بشكل فني مبدع، واستحضار القوانين والتشريعات الأميركية الأساسية والتعديل الدستوري الأول وقرار المحكمة العليا، اعطى الفيلم قوة سياسية وقانونية وحيوية وجمالية فاقت لحد ما العديد من أفلام الخيال. رغم انه فيلم وثائقي بامتياز. لكن حنكة المخرجة جوليا مكنتها من إضفاء ابعاد دراماتيكية وتراجيدية، مما منحه كل ما يستحق من التقدير والثناء، والفوز بالعديد من الجوائز.
mat