تطور في الفكر والتفكير السياسي
نشر بتاريخ: 2022-11-08 الساعة: 13:01مهند عبد الحميد
مؤتمر مراجعة الانتداب البريطاني على فلسطين الذي نظمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالشراكة مع جامعة بيرزيت، ومراكز أخرى، شكل إضافة مهمة في إعادة قراءة المشروع الاستعماري المزدوج البريطاني الصهيوني، من حيث الكم والنوع، فقد جرى تقديم 62 ورقة بحثية من قبل أكاديميين وباحثين ينتمون إلى جنسيات متعددة -27 محاضرا ومحاضرة غير عرب ومعظم الأوراق البحثية الأخرى - 51 ورقة - قدمت باللغة الانجليزية، ويعمل مقدموها في جامعات ومراكز بحث خارج فلسطين. مقابل 11 ورقة باللغة العربية، وجلها قدم خلال أيام المؤتمر الثلاثة في جامعة بيرزيت.
بعد مرور قرن على قرار عصبة الأمم المتحدة باعتماد الانتداب البريطاني على فلسطين، توقف المؤتمرون عند علاقة الأمس الاستعماري بالحاضر الاستعماري، وعند الترابط بين عناصر ومكونات الهيمنة الاستعمارية على شعوب المنطقة. ففي الفكر السياسي الفلسطيني الرسمي الماضوي، جرى الفصل بين الاستعمار والاحتلال البريطاني لفلسطين، وبين المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين، في مسعى براغماتي استهدف تحييد الحاضنة البريطانية للمشروع الصهيوني من قبل القيادة الفلسطينية، ولأن هذا الخلل لم يعالج ولم يجر تجاوزه في الفكر السائد، أعيد إنتاجه عبر رهان القيادة الفلسطينية منذ سبعينيات القرن العشرين على وساطة أميركية وعلى دور أوروبي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمعزل عن العلاقات الاستعمارية. وكانت نتيجة التعويل الراهن أشد خطورة من التعويل السابق.
بعض الأوراق البحثية سبرت غور المشروع الاستعماري، عندما ذهبت إلى أبعد من وعد بلفور وقرار الانتداب البريطاني، ربما لم تكن المرة الأولى فقد سبق لباحثين تناول زوايا صراع مختلفة، بالاعتماد على وثائق ودراسات ومنهج غير استعماري لكن أوراق المؤتمر ربطت بين الزوايا المختلفة مقدمة بذلك رؤية اكثر وضوحا.
حدد المستعمرون خارطة فلسطين التي تلتزم ببناء الوطن القومي اليهودي استنادا للتعريف التوراتي، وأضافوا إلى ذلك حاجته إلى مصادر وإمدادات الري في سفوح جبل الشيخ ومنابع نهر الأردن وما يترتب على ذلك من تعديلات في الحدود مع سورية ولبنان.
ربطت الأبحاث بين المخططات والأفعال الاستعمارية من جهة وبين التصادم معها ومحاولة عمل بناء مضاد للاستعمار من جهة أخرى، وأوضحت مدى انعكاس الصراع على البنية السياسية الاقتصادية الاجتماعية على قطبي الصراع. وبالنتيجة منحت عصبة الأمم الشرعية للانتداب وبدوره منح الانتداب الشرعية للمستعمرين اليهود في مجال الهجرة وحق العودة لليهود والبناء الاستيطاني ونهب الأرض وبناء الوطن القومي في فلسطين.
دبّج المستعمرون البريطانيون استحواذ اليهود على المكان - فلسطين -، استنادا للرواية التوراتية، وفي الوقت نفسه، صنعوا قومية يهودية وطمسوا قومية فلسطينية وأنكروا مقومات تطورها، ورفضوا حقها في تقرير المصير. دمج المستعمرون العرق بالدين وتجاهلوا حقيقة الانتماء الوطني بقطع النظر عن الانتماء الديني، وساهموا في عزل اليهود عن المسلمين والمسيحيين، وربطوا ملكية الأرض باليهود، وعملوا على نزع ملكية الفلسطينيين. واعتمد المستعمرون منظومة هدم وبناء مترابطة، هدم البنية الفلسطينية وتأسيس بنية يهودية على أنقاضها.
اعتمدت بنية الهدم على جانب قانوني، بدءا بتعديل قانون الأراضي العثماني، ومنح المأمور البريطاني سلطة التصرف بالأراضي. وبوضع قوانين جديدة كقانون الأراضي المحلولة القاضي بتحويل ملكية أي مزارع لا يستخدم أرضه ثلاث سنوات إلى الدولة، وبقانون الأراضي الموات التي تناط بالمندوب السامي وهي الأراضي التي لا ينبت فيها شيء كونها تقع في قمم الجبال وفي الوديان. اصبح المالك هو الطبقة الاستعمارية أما المالك الأصلاني فسيجد نفسه غير قادر على دفع الضريبة. الهدف من ذلك هو نزع ملكية الفلاحين وتركيز الثروة بيد طبقة ملاك تحت سيطرة العنصر الاستعماري. النخبة البيروتية فقدت كل حظوتها السياسية وهذا يفسر لماذا باعت الأراضي، أما النخبة الفلسطينية فقد أعادت إنتاج ذاتها في ظل الانتداب الذي انتج طبقتين، الأولى تملك أكثر والثانية أقل، استجابة لمنطق المستعمرة الإحلالية.
مقابل ذلك ورغم اللاتكافؤ، كان المجتمع الفلسطيني مع نهاية السيطرة العثمانية ينبض بالحياة، وشرع بمقاومة الوقائع الاستعمارية مع بداية الاحتلال البريطاني، ووصل إلى ذروة مقاومته أثناء ثورة 36 - 39. الأوراق حاولت إعادة النظر في التاريخ الاجتماعي والقانوني والثقافي والاقتصادي والسياسي للشعب الفلسطيني في السياق الاستعماري البريطاني والمشروع الصهيوني الإقصائي. نشأ من داخل النخبة السياسية عناصر متقدمة أمثال أحمد حلمي باشا الذي أدى أدوارا مهمة في المجالات الاقتصادية، فقد أسس مجموعة مقاتلة قوامها 500 رجل ونجح في صد العدوان عن البلدة القديمة مع مجموعات أخرى. وأيضا عارف باشا الدجاني وموسى كاظم الحسيني في القدس وعز الدين القسام في مدن الساحل وقيادة حزب الاستقلال، الذين شكلوا الجناح المتقدم في التنظيم الذاتي والاعتماد على الذات في النخبة والقيادة السياسية الفلسطينية، وقد تميزوا في موقفهم المناهض للانتداب خلافا للاتجاه المركزي المحافظ في القيادة.
وعلى جبهة الثقافة، توقفت أوراق بحثية عند بعض الجوانب الثقافية والأدبية والتراثية في الحياة الفلسطينية أثناء مرحلة الانتداب. لعب الموروث الغنائي والحراك الثقافي ومهرجان النبي روبين الذي كان يحضره أكثر من 50 ألف شخص، وبعض الجوانب التعليمية والتربوية – الكلية العربية – والمقاهي الثقافية في خلق روابط مجتمعية ثقافية كنوع من المسرح وبعض تعبيرات الأدب الفلسطيني في فترة الانتداب. وقد تأثر المشهد الثقافي في فلسطين بتطور حركة التنقل ومشروع سكة الحديد وخط التراموي، وساهمت في توسع تنقل الأفراد وزيارة الفنانين للمدن كزيارات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعامر خماش. الصحافة بدورها لعبت دور الرافعة بإنتاجها الغزير من داخل فلسطين، وبسجال المواقف الذي استدعته وشجعته.. فترة الأربعينيات شهدت زخما في الكتابة، وقد تعرضت العديد من الصحف مثل الغد والهدف والمهماز لقمع سلطات الانتداب بتهمة الدعوة للثورة.
بقي القول، انه في الصراع بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الصهيوني المنبثق عنه، وبين الشعب الفلسطيني كانت الكفة الراجحة للاستعماريين. لكن كل الإضاءات في حقول الكفاح الوطني والثقافة والتضامن المجتمعي بقيت تفعل فعلها ويمكن البناء فوقها وتطويرها، وكل الاختلالات في المجال السياسي والبناء والديمقراطية وفكر الحداثة ما زالت لم تردم بعد، كما بقي الإرث الاستعماري وتحول من سيئ إلى أسوأ وصولا إلى دولة المستعمرين و»الأبارتهايد». ولكن من المهم القول، إن إرادة الشعب لم تهزم، وإرادة المستعمر لم تنتصر.