نحن وإسرائيل: آمالنا وأوهامهم
نشر بتاريخ: 2022-10-27 الساعة: 13:35عبد المجيد سويلم
لو طُلِبَ منّي أن أُكثِّف الحالة بيننا وبين دولة الاحتلال لما وجدتُ أفضل من الوصف التالي:
لدينا أوهام، ولكّنها أقلّ من آمالنا، ولديهم آمال، لكنها أقلّ من أوهامهم.
وأستطيع كذلك أن أُعيد وصف الحالة من زاوية أخرى:
ليس لدينا بعد أجوبة شافية، ولا حتّى كافية عن الكثير من الأسئلة المطروحة علينا، في حين أن لديهم الكثير من الأجوبة «الجاهزة» على أسئلة ليست مطروحةً لديهم.
أقصد أن كلّ ما يقف في طريقنا إنّما يُعيق صُعودنا، وكل ما يقف في طريقهم سيؤدي إلى سقوطهم.
والآن، دعونا نُحاول فكفكة هذه «الموازنات» حتى لا نقع في محظور الالتباس أو اللبس ــ بالأحرى والأصحّ ــ أو نقبعُ ونبقى في دوائر الغموض والمجرّدات.
دعونا نبدأ من الأسهل: «الحرب» الديمغرافية.
وهنا، أيضاً، دعونا نبدأ من «الداخل»، ولكن ليس لأن المسألة الديمغرافية أسهل، وإنما لكونها ما زالت في «بداية» الخطر على مشروعهم.
في «الداخل» ليس لدى إسرائيل أيّ أجوبة تتصل بالموضوع، في حين أنها تمتلك الكثير من هذه الأجوبة بما لا يتصل بالموضوع مطلقاً.
على سبيل المثال، فإن إسرائيل تطرح أو تقترح «التبادل السكّاني»، وهي مسألة مرفوضة بالمطلق من كلّ فلسطيني على وجه الأرض. أي لا علاقة بين المشكلة، والتي تتحول إلى «أزمةٍ» خانقة مع الوقت، لا علاقة بين الحل والمشكلة أو الأزمة، أي انه وهم مركّب على أوهام.
«الحلّ» هو المساواة أو الترحيل.
المساواة تعني سقوط المشروع الصهيوني من وجهة نظر المشروع نفسه في الغرف الداخلية من البناء، والترحيل انفجارات في كل ركن منه.
ولذلك فإنّ الحلّ وهمٌ مركّب على أوهام.
تكتشف إسرائيل «الآن» أن إحدى أكبر خطاياها الاستراتيجية القاتلة ــ ولا أعرف لماذا يحمّلون كل ذلك لشخص بن غوريون ــ هو «أنها» أبقت على حوالي مئة وستين ألف فلسطيني دون أن ترحّلهم.
وجزء كبير من أنصار «اليمين» وأعوان «اليمين» القدامى والجدد يهدّدون بما كان «يجب» أن يكون عليه الحال، وهو الترحيل، ويعيّرون على بن غوريون حتى الآن فعلته «الشنيعة»!
وبسبب ذلك «سنُّوا» قانون «القومية»، وقانون «القومية» هذا يعني تكريس النظام العنصري، وتكريس النظام العنصري يعني وضعهم على سكّة السقوط المحتومة؛ مع أن القوانين التي سبقته كانت عنصرية، أيضاً.
هذا كلّه قبل الدخول في المسألة الديمغرافية في واقعها الأشمل.
نحن هنا لدينا بعض الأوهام والمراهنات الخاسرة ولو مؤقّتاً:
كان بإمكان أهلنا هناك أن يكونوا أكثر وحدةً وتماسكاً، وكان يجب أن نحسم أمورنا حول جدوى العمل من خلال «الكنيست»، وكان يجب التركيز على بناء الذات الوطنية قبل العمل من خلاله، وكان وما زال يجب حتى اليوم أن تحدد الحركة الوطنية أولويتها في هذا الإطار:
هل يمكن «التعايش» مع مؤسسة «الكنيست» في ظل وجود هذا القانون؟
أم أن إسقاط هذا القانون هو المدخل «الممكن» لهذا التعايش؟
أقصد أن هذا القانون هو المدخل الأهمّ لبناء الذات الوطنية، أو الحق في الدفاع عن الحقوق القومية للأقلية الأصلانية في الداخل، وقد يشترط هذا البناء، وهذا الحق إعادة النظر في «جدوى» العمل من خلال الشكل «البرلماني»، ومدى تناقضه أو إعاقته لمشروع البناء الوطني.
لدينا على هذا الصعيد بعض الأوهام، لكن آمالنا أكبر بكثير من أوهامنا، في حين أن «آمال» المشروع الصهيوني في الترحيل أو الأسرلة محدودة للغاية، وتكاد تكون مستحيلة، وبذلك فإن أوهامهم أكبر بكثير من هذه «الآمال»، وهم يعومون فوق بحيرة من الأوهام.
يعتقد القسم الأكبر من يهود المجتمع الإسرائيلي ألا تناقضَ على الإطلاق بين أن تكون الدولة يهودية وديمقراطية؟! لأنهم في الواقع يرفضون فكرة المساواة، وإذا قبلوها فهم يقبلونها على «أُسس» شكلية لا علاقة لها بالمساواة، مثل «حرّية» العمل السياسي أو «حرّية» انتقاد المؤسسات الصهيونية، أو حرّية تشكيل الأحزاب، أو غيرها.
بل «ويمنّون» على أهلنا بذلك، بالمقارنة مع مثل هذه الحريات في العالم العربي.. أي أن إسرائيل تتعامل مع من هم «مواطنوها»، أو من المفترض «أنهم» كذلك بمنطق ما قبل الرأسمالية، وهو أقرب إلى المنطق «الرعوي» في الحقيقة.
الأوهام بعدم وجود تناقض أو تعارض في «الفهم» الإسرائيلي، أو الوعي الإسرائيلي هنا لا يُضاهيه أيّ تناقض، والآمال بأن يستمر هذا التناقض في حكم وفي تحكّم المشروع الصهيوني بأهلنا في «الداخل» لا تتعدّى الصفر المئوي.
ولذلك فإن أوهامنا ثانوية بالمعنى التاريخي، وآمالنا حقيقية في الواقع، مقابل أوهام زائفة وآمال مستحيلة.
ولذلك، أيضاً، فإن المسألة الديمغرافية في شقها الذي ما زال «خفيفاً» على مستوى «الداخل» فقط، هي سبب لصعود مشروعنا مقابل انحدار مشروعهم.
أما إذا انتقلنا إلى المسألة الديمغرافية في صورتها الأعمّ والأشمل فإن أزمة الصعود والسقوط هنا تبدو مُدوّية.
بين النهر والبحر، اليوم، يوجد من الفلسطينيين ما يفوق عدد اليهود الإسرائيليين بقليل.
إذا أخذنا المعطيات القائمة إحصائياً فإن هذا الاتجاه سيستمر في الصعود لصالح «مشروعنا» وضد مشروعهم، في حالة ثبات المؤشّرات.
فلو بقيت الهجرة إلى إسرائيل والهجرة منها، وكذلك معدّلات الإخصاب لديها عند نفس المعطيات الحالية، وقارنّا نفس هذه المعطيات عند الفلسطينيين ــ من النهر إلى البحر ــ فإن الاتجاه الذي ذكرناه سيتعزز بصورة مطردة، وهذا الأمر يعني في الواقع الضغط على إسرائيل بهدف إبقاء قطاع غزّة مفصولاً عن الأرض المحتلة، ويضغط عليها في حالة فشل ذلك ــ وهو فاشل وسيفشل ــ فإنّ هذا الأمر سيضغط على إسرائيل نحو «حل الدولتين» كخيار أقل خطراً عليها من خيار «الدولة الواحدة»، أو «الدولة الثنائية القومية».
الأوهام الإسرائيلية هنا فاضحة.
ليس أمامها حلّ واقعي «يُنجيها» سوى الاحتمالات التالية:
الترحيل الجماعي الكبير، أو القبول بحلٍّ وسط.
الحلّ الوسط الوحيد هو قرار التقسيم لأنه «يُؤمِّن» يهودية الدولة مبدئياً، أو تتحوّل الأقلية اليهودية إلى أقلية تحكم الأكثرية بنظامٍ عنصري على شاكلة أسوأ من نظام الفصل العنصري الغابر في جنوب إفريقيا.
ومن زاوية المسألة الديمغرافية فإن أزمة الصعود الفلسطيني هي أزمة مؤقّتة من الناحية التاريخية، واتجاه سقوط المشروع الصهيوني هو اتجاه مؤكّد من نفس هذه الناحية.
طبعاً المجتمع السياسي في إسرائيل يُراهن على تقليص معدّلات الهجرة من إسرائيل، ويعمل جاهداً لزيادة الهجرة إليها، وسيعمل جاهداً من أجل هجرة الفلسطينيين بسبب ما يقوم به الاحتلال من تحويل حياتهم إلى جحيم لا يُطاق، وسيلجأ إلى «الترحيل الجماعي» (الترانسفير) إذا أُتيحت له الفرصة، كل هذا وارد وتخطط له إسرائيل، لكن نجاحها هنا ليس مضموناً، وليس متاحاً كما تريد، خصوصاً ان الأمر سيعتمد على صمود الفلسطينيين على أرضهم، وعلى تماسك الحالة الوطنية كلها، وعلى تغييرات في الحالة الدولية وحتى الإقليمية ستجعل من مشروعهم على هذا الصعيد بالذات مشروعاً واهماً ولا أمل بنجاحه.
هنا لدينا نحن بعض الأوهام الخطرة:
من يحاول إقامة «إمارة» في قطاع غزة، عليه أن يعرف أنه ليس سوى إحدى أدوات المشروع الصهيوني سواء عرف ذلك أم لم يعرف.
ومن يعمل على «تطفيش» شبابنا عن وطنهم بسبب جشعه السياسي ومصالحه الاقتصادية والاجتماعية الخاصة هو في الواقع إحدى أدوات المشروع الصهيوني سواءً عرف أم لم يعرف.
ومن يمنع وحدة شعبنا في الداخل لأسباب تتعلق بمؤسسات سياسية أو حزبية، أو أيّ مصالح فئوية هو في النهاية يخدم المشروع الصهيوني المعادي لشعبنا سواء أدرك ذلك أم لم يُدرك.
ومع ذلك، وبالرغم من كل هذا فإن فرص نجاح المشروع الصهيوني هي فرص زائفة، وفرص تخطّي الشعب الفلسطيني لهذه الأخطار هي الأقوى والأكبر والأكثر انسجاماً مع الواقع.
لم نتناول هنا إلّا على عُجالة المسألة الأولى في رؤية آمالنا و»آمالهم» وأوهامنا وأوهامهم، وهي مجرد واحدة من المسائل التي أنوي مناقشتها من بين أكثر من ثماني أو تسع مسائل سآتي عليها لاحقاً دون أن التزم بنشرها على حلقات متسلسلة، وذلك لأن الأحداث الكبيرة تدهمنا كل يوم، وكذلك لأن «الحلقات المتسلسلة» تحتاج إلى إعدادها كلّها دفعةً واحدة، وهو أمر لا أُفضّله، الآن.
القصد من هذه المقالات التي أعد بأن تغطي عنوان هذا المقال هو الوصول إلى خلاصة لها علاقة مباشرة وجوهرية ــ كما أرى ــ بالبرنامج القادر على إعادة توحيد الشعب الفلسطيني، كلّ الشعب الفلسطيني في الظروف التاريخية الجديدة التي باتت تُحتِّم علينا إعادة قراءة المشروع الوطني.
الإسهام في إعادة القراءة هذه من قبل كل القوى والشخصيات والكفاءات والخبرات بات مُلِحّاً لأن المشروع الصهيوني يُسارع الخُطى نحو الإجهاز على هذا المشروع قبل أن نصحو، وقبل أن نتدارك أمورنا، وقبل فوات الأوان.