الرئيسة/  مقالات وتحليلات

كيف يمكن أن تترجم تراس صهيونيتها الزائدة؟

نشر بتاريخ: 2022-10-09 الساعة: 21:31

 

باسم برهوم


لم يعد هناك مجال للتساؤل حول هوية وهوى رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، فهي بالصوت والصورة تعلن أنها "صهيونية كبيرة"، وقبل ذلك وعندما التقت برئيس الوزراء الإسرائيلي لبيد على هامش اجتماعات الجمعية العامة، أخبرته أنها تفكر بنقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس. وبما أن تراس واضحة كل هذا الوضوح في دعمها للصهيونية، فإن السؤال هو كيف ستترجم رئيسة الوزراء البريطانية هذا الدعم وهذا التبني للصهيونية عمليا وعلى أرض الواقع؟

في التاريخ البريطاني قدم أمثال تراس الإجابة عن السؤال، في الجزء الأخير من الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في نهاية عام 1916، حين تسلم ديفيد لويد جورج رئاسة الحكومة، وكان كما هي تراس اليوم مؤيدا قويا للصهيونية، لويد جورج المستميت من أجل تحقيق النصر في الحرب، كان بحاجة لدعم يهود روسيا والولايات المتحدة الأميركية، فقدم للصهيونية وعد بلفور في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وهو الوعد الذي ينص على منح اليهود وطنا قوميا في فلسطين. بعد انتصاره في الحرب، أصر لويد جورج، الذي كان لاعبا اساسيا في مؤتمر السلام، على تضمين وعد بلفور في صك الانتداب، وأن يكون الهدف من صك الانتداب هذا هو تنفيذ الوعد على الأرض الفلسطينية.

وإذا نظرنا للواقع الدولي اليوم فإن الحرب في أوكرانيا هي بمثابة حرب عالمية ثالثة مصغرة، وبريطانيا تمر خلالها بأزمة اقتصادية، وهي تحاول لعب دور مركزي في هذه الحرب وبالتالي في حصد نتائجها، فالسؤال هنا هل تراس -وللأسباب القديمة نفسها- قد حذت حذو لويد جورج من أجل الحصول على دعم اليهود المالي لاقتصادها المنهار فبادرت للإعلان أنها صهيونية كبيرة؟ ثم ما الذي يمكن أن تقدمه تراس للصهيونية خاصة وأن بريطانيا اليوم لم تعد هي بريطانيا الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس؟ ربما الورقة الأهم هي ما أخبرت تراس به رئيس الحكومة الإسرائيلية، ألا وهو الوعد بنقل السفارة البريطانية إلى القدس.

فالسؤال هنا لماذا تعتبر الصهيونية مسألة نقل السفارة البريطانية لا تقل أهمية عن نقل السفارة الأميركية إن لم يكن أهم؟

بالنسبة للصهيونية فالأمر معروف، فإن روايتها التي صاغتها بهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين لا تستقيم دون السيطرة على القدس، وهذا بالضبط ما عناه ديفيد بن غوريون عندما قال لا معنى لإسرائيل دون القدس. فالصهيونية سعت منذ البدايات لأن يضمن تنفيذ وعد بلفور سيطرتها على القدس بحجة أنها عاصمة داود وسليمان، الوعد نفسه، وهنا الفارق بين المغزى البريطاني والمغزى الصهيوني، فقد  نص بلفور على شرط ألا تمس عملية إقامة الوطن القومي اليهودي بالحقوق المدنية والدينية لباقي الطوائف في فلسطين، وفي هذا تكمن إشكالية حسم وضع القدس ومقدساتها المسيحية والإسلامية.

في كل مشاريع التقسيم التي دعمتها بريطانيا تاريخيا كان للقدس فيها وضع خاص، ليس فيه سيطرة لدين أو طائفة بعينها، في هذه المشاريع كانت بريطانيا تصر إما أن تبقى القدس، وأحيانا معها بيت لحم، تحت سيطرتها هي كما في تقسيم لجنة بيل عام 1937، وبعد ذلك كانت تقوم بتقسيم ما تبقى من فلسطين بين اليهود والعرب. وفي قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، فقد  تقرر وضع القدس بشطريها الغربي والشرقي تحت الإشراف الدولي.

وخلال حرب 1948، دعمت بريطانيا الفيلق العربي (الجيش الأردني) لتمنع سيطرة بن غوريون على الشطر الشرقي من القدس، الذي فيه القدس القديمة والموجود فيها الأماكن المقدسة. وحتى بعد انتهاء الحرب لم تعترف بريطانيا باحتلال إسرائيل للشطر الغربي من القدس، واعتبرت هي والعالم أن إسرائيل تسيطر على هذا الشطر بحكم الواقع، وأن لا شرعية قانونية ودولية لاحتلال إسرائيل للقدس الغربية، ومن هنا قررت بريطانيا وكل الدول التي اعترفت بإسرائيل في حينه وضع سفاراتهم في تل أبيب وليس في القدس الغربية، وأبقت بريطانيا ودول أخرى على وجود قنصلي فقط  في المدينة.

بعد حرب 1967، واحتلال إسرائيل للشطر الشرقي من القدس حافظت بريطانيا على موقفها وكانت حازمة فيه بعدم الاعتراف بهذا الاحتلال ولا بالقرارات الإسرائيلية بضم المدينة، وأكثر من ذلك كانت لندن تدين وتستنكر كل أشكال التهويد للمدينة من استيطان وهدم منازل الفلسطينيين أو تهجير المواطنين الفلسطينيين منها، أو المس بالأماكن المقدسة. كما لم توافق بريطانيا على إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، بل إن لندن في حينه اعتبرت ما قام به ترامب خطوة ليست حكيمة.

من هنا تكمن أهمية ما أخبرته تراس للبيد بأنها تفكر بنقل السفارة البريطانية إلى القدس، فبالنسبة للصهيونية العالمية فإن الاعتراف البريطاني تحديدا هو بمثابة التخلي عن الشرط الذي لم تكن ترغب به الصهيونية من أساسه في وعد بلفور، وهو عدم المس بالحقوق المدنية والدينية لغير اليهود في فلسطين، ما يعني أن القدس تحديدا سيبقى لها وضع خاص لما فيها من أماكن مقدسة للمسلمين والمسيحيين. إن ما تحاول تراس القيام به هو بمثابة انقلاب على سياسة بريطانية عمرها من عمر الصراع، الذي هي -أي لندن- من أشعله، لذلك يشكك كثيرون بقدرة تراس على القيام بهذه الخطوة بالرغم من انجرافها المبالغ به نحو الصهيونية. ولكن السؤال هل بريطانيا في هذا الوضع من الضعف والسوء بحيث تقوم الآن بإجراء التعديل الذي طالما أرادت الصهيونية شطبه من وعد بالفور وتمنحها  كل ما تريده؟

تراس المتطلعة بيأس لأن تسيطر على حزبها، حزب المحافظين، وتقوده لتفوز في الانتخابات البريطانية القادمة، هي بحاجة ماسة لوقف التدهور في الاقتصاد وأيضا بالمحافظة على دور بارز في الحرب الأوكرانية، وفي كل هذه الأمور تعتقد تراس، أو على الأقل من بين ما تعتقد أن الصهيونية هي المخلص. فالسؤال الآن هل بإمكان الدولة العميقة في بريطانيا التي حافظت على الشرط المنصوص عليه في وعد بلفور حتى الآن، وعلى موقف بريطانيا التقليدي من قضية القدس؟ الجواب يتعلق فيما إذا كان ما تعلنه تراس يمثل مصلحة بريطانية عليا، أو أنه مجرد مصلحة لتراس نفسها، والخوف أن يكون تعبيرا عن مصلحة بريطانية وهنا سنكون نحن -الفلسطينيين والعرب- في مواجهة صعبة مع الدولة البريطانية وليس مع سياسات تراس نفسها.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024