قوارب الأمل الغريق
نشر بتاريخ: 2022-09-28 الساعة: 13:12
هلا سلامة*
قوارب الموت ليست مستجدة، لكنها تنشط في الآونة الأخيرة في لبنان ويبرع تجارها في إقناع الناس بالوصول إلى الجنة الأوروبية مقابل أموال طائلة يوزعونها على جيوبهم وعلى شراء القارب الذي يفتقد لأدنى معايير السلامة.
هكذا يتآمرون على عقول الناس من خاصرة ظروفهم المعيشية الصعبة فيغدو البحر بالنسبة إليهم طريق النجاة الوحيدة سرعان ما يبتلعهم في أعماقه.
وتختلف الحالات العمرية والاجتماعية بين المهاجرين من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، فبعضهم يتخذ قرار السفر المشؤوم بنفسه، وبعضهم كالأطفال الذين يتخذ أهاليهم القرار نيابة عنهم، نحن لا نبرر ضيق الحال في لبنان وما تتعرض له العائلات من ضغوط في تأمين أبسط الحاجات الحياتية ولكننا أيضا لا نسلم بما ترتضيه مافيات التجارة بالبشر من مصير أسود للضحايا ولا بمجازفة أولادنا بالهروب إلى المجهول.
لا شك أن الدولة اللبنانية تتحمل أكثر مسؤولية مراقبة الشواطئ التي ينطلق المهاجرون منها في قوارب الموت، وملاحقة الرؤوس التي تدير تلك الجريمة الموصوفة التي تتنامى دون أي رادع وإنزال أقسى العقوبات بحقهم، كما أن على الدول الأوروبية اتخاذ قرارات لا لبس فيها لردع تلك الرحلات المحفوفة بالمخاطر.
إن الأزمة المالية والاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان منذ ثلاث سنوات وما أعقبها من انهيار القطاعات الحيوية فيه، عززت حالة العوز لدى شريحة واسعة في المجتمع اللبناني، إذ انخفض مستوى معيشتها بشكل كبير حتى باتت تفتش عن الخلاص بكل السبل حتى ولو كانت احتماليات نجاحها 1%.
وليس من يسكن الأراضي اللبنانية إلا أسوأ حالا، خاصة إخوتنا الفلسطينيين، فنحن على سبيل المثال لا نفهم أن يغادر ابن الـ١٥ عاما من مخيم شاتيلا في
أحد قوارب الموت وهو ما زال على مقاعد الدراسة، إلا لأنه يعيش واقعا معدوما من الأمل في مستقبل يحلم به، هذا الواقع مضى عليه أربعة وسبعون عاما دون أي تعديل أو تبديل أو حتى إعادة النظر من قبل السلطات اللبنانية به، علما أن دستور الأخيرة وقوانينها لا تبرر سياج الحرمان المفروض على أبناء المخيمات والتجمعات الفلسطينية وغالبيتهم ولدوا في لبنان.
قانونا هؤلاء يحق لهم الحصول على الجنسية، والتمتع بالحقوق المدنية والإنسانية كافة كأي مواطن لبناني، كما أن حصولهم على الجنسية اللبنانية لا يسقط عنهم هويتهم
الأساسية، وإلا لكانت الهوية اللبنانية سقطت عن ملايين اللبنانيين الذين ولدوا في دول الاغتراب وحصلوا على جنسياتها.
تسقط مقولة التوطين البالية التي في الأساس يرفضها الفلسطينيون في لبنان وهم متمسكون بحق عودتهم إلى وطنهم، علما أن عددا منهم قد حصلوا على الجنسية في لبنان بموجب مراسيم التجنس التي صدرت على مر السنوات، فكيف تسري مخاوف التوطين على البعض دون الآخر؟ وهل كل ذلك يبرر الإهمال الذي يستهدف الإنسان الفلسطيني عمدا في حياته وحقوقه على الأراضي اللبنانية؟
تتراخى الجهات المسؤولة عمدا ولو بالسؤال عن شريحة من الناس تعيش ضمن نطافها الجغرافي وليس في جزر الماو ماو، لقد أمنت دول الخارج للبنانيين والفلسطينيين كل ما يحتاجونه في حياتهم، التعليم والطبابة والمسكن والعمل.. وحتى أنها سمحت لهم بتبوء المناصب العالية في مراكز القرار دون أن تطلب منهم أي تنازل عن حقوقهم في أوطانهم، في وقت يعجز في الفلسطيني في لبنان حتى الآن عن العمل على سيارة تاكسي، وخريج الحقوق لا يسمح له بممارسة مهنة المحاماة، وخريج الطب ممنوع عليه أن يكون طبيبا، وتجد خريج الهندسة يعمل مساعدا لدى مهندس لبناني مثلا أو في مهنة أخرى لا علافة لها باختصاصه.. وموانع أخرى لا تعد ولا تحصى ليس من شأنها إلا قتل أحلام الشباب الفلسطيني في لبنان.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالظلم يلاحق اللاجئين الفلسطينيين في صحتهم وتعليمهم ومسكنهم وعملهم وحتى في تنفس الهواء في مخيمات تفتقر للحد الأدنى من شروط الحياة، بنى تحتية مهترئة وبيوت متلاصقة تفتقد الشمس والهواء، ممنوع إدخال مواد البناء إليها لترميمها وتحسينها ومن كانت أحواله ميسورة ليشتري منزلا خارج المخيم يمنع من تسجيله باسمه والاحتفاظ بحقه العقاري، فنجد من الفلسطينيين من يسجلون بأسماء لبنانيين أو أقارب لهم حاصلين على الجنسية، في وقت يتاح لحاملي جنسيات عديدة من العالم تملك البيوت والأراضي في المناطق اللبنانية.
ولو أن رواتب وخدمات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية و"الأونروا" والمساعدات الخارجية من الأقارب والتكافل الاجتماعي خففت من عبء الأزمة اللبنانية عن كاهل أهلنا الفلسطينيين، فإن الحقيقة أن مشكلتهم تتعلق بكل مفاصل حياتهم كبشر يعيشون على الأراضي اللبنانية علينا احترامهم عبر منحهم كل مقومات الحياة، قبل البكاء على حطام القوارب التي تقذفهم إلى الموت في البحار أسوة بأشقائهم اللبنانيين والسوريين ...اللاجئون الفلسطينيون في لبنان هم جزء من قضية وطن عريي آسى ما آساه وعانى ما عاناه، وما زال، من جراء احتلال غاشم جاثم على صدور أبنائه، مرة أخرى نقول إنهم لم يأتوا في رحلة سياحية إلى لبنان اختاروا التمديد لها ٧٤ عاما من شدة الرخاء والترف!!.. وإلى حين انتزاع حقوقهم المشروعة في دولتهم الحرة المستقلة فلسطين وعاصمتها القدس، علينا مساندتهم أفعالا وليس شعارات نتلطى خلفها ..فكفى.
* صحافية لبنانية
mat