سياديّة التعليم في القدس
نشر بتاريخ: 2022-09-11 الساعة: 13:41
الكاتب: تحسين يقين
شكرا للرقابة العسكرية الإسرائيلية على كتب مدارس القدس..ألف شكر..من قلبي وعقلي أشكر الغزاة ومعي كثيرون. ألم يفعلوا ذلك مع أشقائنا فلسطينيي عام 1948 منذ 73 عاما فماذا كانت النتيجة؟ لقد ازادوا تمسكا بفلسطينيتهم، وإن مرور ساعة في الجليل عام 1997، جعلتني أقول لمرافقي: إن فلسطين والعروبة حاضرة هنا أكثر من أي بلد!..ألم ينطلق يوم الأرض من هنا يوما؟
شكرا لكل من يحاول إبعاد فلسطين عن أذهاننا، لأنه بفعلته هذا إنما يدفع فلسطين للحضور والتوهج أكثر.
- الغزاة لا يقرؤون!
- معقول! إنهم دولة قوية فيها مركز بحث وعلم!
- هذا مهم، لكن قراءة الذات والآخر، والتاريخ والحاضر والمستقبل هل أتقنتوا يوما قراءته؟
- .................!
كتب فيكتور هيجو فى نهاية كتابه "قصة جريمة" عن حصار القوات الألمانية للعاصمة الفرنسية باريس فى العام 1870: "إن من الممكن هزيمة الجيوش، ولكن من غير الممكن هزيمة الأفكار، فى إشارة إلى أفكار الثورة الفرنسية".
سبقه ابن رشد بسبعة قرون حينما حرقت كتبه؛ فقد اختتم يوسف شاهين فيلم "المصير" الذي مضى 26 عاما على عرضه، بعبارته الخالدة: "الأفكار لها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها توصل للناس". بل إنه حين يجد كتابا من كتبه نجا من الحرق، فإنه يلتقطه ويرميه الى النار، وما زلنا نتذكر نور الشريف الذي قام بدوره، وهو يسلم على حارقي كتبه وهو يشكرهم، لعلمه أن فعلهم سيخلد كتبه، وهذا ما كان، ولعل ابن رشد قد اعتبر خير حافظ وشارح لكتب الفلسفة اليونانية.
ترى كيف نقرأ هذا الاتجاه الوطني: سيادية الرواية والتعليم في القدس وفلسطين؟
لو اعتبرنا سنة 1948 سنة أساس التغييب الفلسطيني، فكيف سنفسّر الحضور الفلسطيني من النكبة حتى اليوم وغدا؟
لماذا فشلت محاولات طمس فلسطين وشطب اسمها؟
الجواب ببساطة أن شعبنا استمر بالمحافظة على روايته ورسالته ووجوده الحيّ كفلسطيني هنا على أرض فلسطين المحتلة، أو في أماكن اللجوء.
ولو تذكر كل جيل ما فعله الكبار معه، لأدرك بعمق مرادي من هذا الكلام؛ فالمعلمون/ات في عقدي السبعينيات والثمانينيات، التي عشتها طالبا في المدرسة (1973-1985)، علمونا ما هو حاضر في الكتب عما له علاقة بفلسطين، والذي كان حضورا محدودا بدون ذكر اسم فلسطين، ولكنهم علمونا ما هو غائب عن فلسطين، والتي كان اسمها حاضرا بكثافة وجمال. والنتيجة أن من ولدوا بعد عام 1967، ودرسوا الكتب التي أجازها الاحتلال الإسرائيلي، كانوا هم مشعلي الانتفاضة الأولى عام 1987. ترى ما معنى هذا؟ هل هناك من دلالة ما في التكوين الوطني للأطفال والطفلات: طلبة مدارس فلسطين في الأرض المحتلة؟
ونحن نتحدث عن التكوين الفلسطيني الثقافي والتعليمي فيما يخص الرواية والتاريخ والجغرافيا والأدب، ينبغي الانتباه لفترتين مهتمين ساهمتا بدعم وصول المنتوج الثقافي الوطني للفلسطينيين، كبارا وصغارا، وهما:
- عقد وجود منظمة التحرير من السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات، حيث تم إنشاء الكيان المعنوي لفلسطين، وهي تستحق الدراسة والبحث، واستقصاء الفعل الثقافي والفكري والفني والتربوي هنا، والذي "جزّ عشبه الأخضر"، الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف عام 1982؛ فلم يكن الاجتياح متوقفا على الفعل العسكري الإسرائيلي ضد المقاومة في لبنان فحسب، بل كان اجتياحا لفلسطين التي يعاد تشكيلها وطنيا وفكريا وثقافيا وهوية في لبنان، وما ماهجمة الغزاة لمركز الأبحاث ونهب مقتنياته، إلا إثباتا لهذا الهدف. لقد كانت إسرائيل مدركة للخطر الاستراتيجي للثقافة والتعليم، من منظور فلسطيني.
- أما الأمر الثاني، بداية تأسيس السلطة الوطنية عام 1994، حتى الانتفاضة الثانية 2001، وبالتحديد حتى عام 1999، حيث شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة تطورا ثقافيا وتربويا لافتا، في مجالات متنوعة، ومنها التعليم، لدرجة نقل الأهالي أبنائهم وبناتهم من المدارس الخاصة الى المدارس الحكومية. ولعله من المهم تسجيل ذلك لقادة فلسطينيين مخلصين، آمنوا بفلسطين.
ولا ننسى المؤسسات التربوية من مدارس وجامعات واتحادات ومؤسسات إعلام وثقافة، التي جميعها تعرضت لقمع الرقابة العسكرية الإسرائيلية، حيث رسخت جميعا فلسطين في أذهان شعبنا وقلوب أبنائه وبناته.
بمعنى، أن شعبنا حافظ على روايته طويلا من خلال الرواية الشفوية والمكتوبة في الصحف والمجلات والكتب، برغم الرقابة العسكرية، ولكن بوجود بنى شبه رسمية حتى خارج فلسطين، ورسمية هنا، بتأسيس السلطة، فإن ذلك كان عاملا قويا يمأسس ويشرعن تلك العملية الوطنية الإنسانية والحضارية.
ويدعم ذلك بالطبع أمر مهم جدا، ينبغي دوما الانتباه له، وهو أن فلسطين العريقة، كانت في مقدمة النهضة العربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فالتنوير العربي يدين لحاضرتي يافا والقدس، كحاضرتين رياديتين جنبا الى جنب مع القاهرة وبيروت.
والآن، كيف نقرأ سيادية الرواية والتعليم في القدس وفلسطين؟
وما الذي يمكن فعله لعمل اختراق وطني وشعبي ورسمي؟
لك نكن فقط نقبل على كل ما له علاقة بفلسطين، بل كنا نبحث عنه وكل ممنوع من الاحتلال صار مرغوبا لنا، نبحث عنه، ولم يكن ذلك من السهل، فما بال الطلبة وإمكانيات الكلمة اليوم؟
قبل أيام، روى لنا الأخ طارق ابو حمزة "أن أهالي طلبة المدرسة الإبراهيمية أحضروا كتب المنهاج الفلسطيني غير المحرف السليمة لباب المدرسة في اليوم الأول للدوام، ثم أعطوها لكل طالب بيده وفي حقيبته..قالوا لأبنائهم علناً، ولتسمع المؤسسة الصهيونية: هذه الكتب فقط هي ما ستدرسون منه.. وليست الكتب التي تريد إرباككم ومحو تاريخكم ونزع هويتكم منكم."
وكان الكاتب قد افتتح مقالته: "أحيانا عندما تتعب أو تعجز المؤسسات والجماعات والأحزاب .. اعطوا الناس الزمام، ليحصلوا حقوقهم بايديهم."
وهو يوضح أن ذلك تم في سياق "إبلاغ الحكومة الصهيونية إدارة المدرسة الإبراهيمية، بأنها ستغلقها تماماً وتسلب منها تراخيص العمل إذا لم تلتزم بالكتب المدرسية التي يريد الصهاينة فرضها... كتب مشوهة محوا منها صور للأقصى وكلمة فلسطين وعلمها.. وايضا محو آيات من القران وأشعار ونصوص.. يرى الصهاينة أن لها دور في ترسيخ الهوية الفلسطينية العربية الإسلامية في القدس."...."إدارة المدرسة كانت في وضع صعب لأنها مؤسسة رسمية لها مجال محدود في المناورة...
فما كان من أهالي الطلاب إلا أن أخذوا المبادرة وتحركوا بأنفسهم..".
المتتبع لاختيارات الأطفال والفتيان، وحتى للطفولة المبكرة قبل المدرسة، يجد أمرا مهما يتعلق بتعلم الطلبة كيف يتم، حيث أن للطلبة طرقا بديلة للتعليم الرسمي التقليدي، الذي يقبلون عليه لأجل التحصيل والامتحان لأجل التخرج ودخول الجامعة، أي ثمة ما يجبرهم على تلقي التعليم الرسمي التقليدي. لذلك فإن الأرض أصلا مهيأة كي يقبل طلبة فلسطين في القدس وفلسطين، بل وفي فلسطين المحنلة عام 1948، على البديل، وسيكون هذا البديل جذابا حين يكون مرتبطا بالوجود.
لك ينته الاحتلال، بل نحن نعمل على إنهائه، بمختلف السبل، بل ونربي الأجيال على ذلك، إن لم نفعل فأية مشروعية ستظل لنا؟
وهنا نود أن نتحدث عن منطومة أفعال تصب في جعل شعار سيادية التعليم في القدس أمرا واقعا مسموعا ومرئيا:
- وعي المعلمين/ات في إعلام الطلبة بما غاب عن الكتب.
- تشجيع الطلبة على البحث عن تاريخيهم بالاستفادة من وسائل العصر.
- العمل القانوني مع مختلف الجهات، لإلزام إسرائيل بعدم التدخل بتعليم طلبة القدس المحتلة.
- التعاون الذكي بين مدارس القدس بمرجعياتها المتعددة، على إكمال ما لم يحضر في الكتب.
- توظيف تعددية مدارس القدس من محتلف المرجعيات، بطريقة وطنية وإنسانية تخاطب العالم من خلال اللغات الحية، الانجليزية والفرنسية والألمانية، وليس العربية فقط، "الأفكار لها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها توصل للناس"، فليس فقط نضمن استقبال الطلبة لما هو حقيقي وموضوعي وطنيا، بل يصبح الطالب/ة مرسلا لرسالة صادقة مؤثرة على العالم.
- جعل نقاط الضعف نقاط قوة، فمن خلال لجوء طلبة القدس "للاختبارات الإسرائيلية البجروت وغيرها"، فإن إقبالهم على التعليم العالي في "إسرائيل"، سيمكنهم من تلقي تعليم جيد، وشهادات تخرج، تؤلهم للعمل بندية مع "الخريجين اليهود"، بما يعني ترسيخ الندية، وعدم تحوليهم لمجرد عمال مهرة أو غير مهرة في الورش والمزارع والمستوطنات.
- إسناد مديرية تربية القدس المبعثرة والمغلقة، لتصبح منتظمة في الفعل على الأرض.
حين عنون سميح القاسم "قصيدة الانتفاضة" قبل 3 عقود ب"رسالة إلى غزاة لا يقرأون"، كنت أول الشباب، وأظنني فهمت المضمون قبل قراءة النص: لو قرأ الغزاة فعلا لعرفوا ولتغيروا وانسحبوا وأنهوا الاحتلال!
وهكذا، فعلا شكرا للاحتلال الذي يعدينا لسميح القاسم مرة أخرى:
"تقدموا/ لا تفتحوا مدرسة/ ولا تغلقوا سجناً ولا تعتذروا"
لينتقد تلك العقلية غير السوية:
فما الذي يدفعكم من جثة لجثة/ وكيف يستدرجكم من لوثة للوثة/ سفر الجنون المبهم.
الخوف يقتل صاحبه!
وأختتم هذا الحديث بسخرية عميقة من خلال فيديو نشرته مؤسسة فيصل الحسيني: تذكر الفتاة أن الاحتلال أزال ما له علاقة بجدار الفصل العنصري من أحد الكتب، لكن ما زال الطالب المقدسي يرى هذا الجدار فعلا!"
ذكرتني بلاغة العبارة عن كيف أن حكومات إسرائيل تتهمنا بالتحريض في المناهج وغيرها، أي المقصود به ما يدعو الى "الفعل المقاوم"، طيب فمال من يقوم بالقتل الفعلي بثا مباشرا"؟
بس خلينا نكون مع بعض..محبة واحترام وحنان..وشوفوا شو راح يعمل الجيل الجديد!
فقط "لا نورثهم عيوبنا" نحن الكبار وسنرى معا الفعل المقدسي والفلسطيني القادم.
"إنني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم يأت به الأوائل".
هل مات أبو العلاء المعري فعلا!