لذلك لا يعتذر رئيس الفلسطينيين
نشر بتاريخ: 2022-08-21 الساعة: 13:02
الكاتب: د. جمال نزال
اتهامات الإسرائيليين للرئيس بمعاداة السامية وإنكار المحرقة قديمة ولكنها باطلة ومكذوبة. هي جزء من الحملة الهادفة لنزع الشرعية عن المطالب الفلسطينية بالاستقلال ووصف النزاع بإنه نابع فقط من كراهية المسلمين لليهود وأن الاحتلال ليس سبب هذا النزاع وأن نضال الفلسطيني ليس تحرريا بل عقائدي (لاسامي) كاره لليهود. بين كل فترة وأخرى يعيد المتصهونيون الكرة ويطرحون هذا الموضوع. وبالامس استغلوا ما حدث بشكل تسونامي مواد اعلامية وسياسية ضدنا بعد أن دسوا وكيلا عنهم لطرح موضوع ميونخ.
ماذا تعني عملية ميونخ للألمان؟
تعتبر عملية ميونخ في الوعي الألماني هجوما فلسطينيا على ألمانيا وضربة صعبة جدا في وقت حساس قتلت هدفا وجوديا كانت تسعى لتحقيقه الجمهورية الاتحادية هشة البنيان.. عند استضافة ألمانيا الألعاب الأولمبية عام 1972 لم يكن مضى على كارثة الحرب العالمية الثانية التي خسرتها وخسرت فيها مكانتها وقت طول. كانت روحها متصدعة. كانت تتطلع لتقديم نفسها بثوب زاه يستبدل صورتها المحطمة في الحرب العالمية الثانية كمجتمع ملوث بالدماء وجرائم الحرب ضد أوروبا وعار المحرقة. لقد أهينت ألمانيا وتفسخت وتصدعت بأثر ما ارتكب النازيون من فظائع . ولبسها عار ذبح ستة ملايين يهودي بطريقة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل. بعد انتهاء الحرب تكشف ستار الحطام عن الحقيقة المروعة التي صدمت العالم بأسره والشعب الألماني مما فعلوا. تفنن النازيون في قتل اليهود بطريقة منظمة وصناعية لم يكن العقل الانساني قد تفتق حتى في رويات الرعب عن شيء يشبهها. فقدت المانيا كرامتها وشرفها وهويتها وعزتها ووحدتها وخصوصا بسبب ما فعلت في المحرقة. وأخذت على نفسها عهدا بأن تصون الحياة اليهودية فوق أراضيها وفي العالم كلها. صار ذلك عنصرا مؤسسا لوجود الدولة الألمانية. هذا العنصر يشبه قدسية العلمانية في هوية الدولة التركية والمادة 2 من الدستور الأمريكي الخاصة بامتلاك السلاح الفردي أو الثوابت الوطنية في ثقافة أي دولة!
NEVER AGAIN; NIE WIEDER
التوبة عمرنا ما بنعيدها. أصبح شعار الضمير الألماني تجاه المساس بالدم اليودي. صارت عقدة الذنب منبع المسؤولية عن صون حياة يهود في كل مكان وخصوصا فوق أرض المانيا. محرم أن يسفح دم يهودي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. هذا هو العهد الذي أخذته الجمهورية الاتحادية على نفسها وأرادت يوم الالعاب الأولمبية الاحتفال به. الألعاب الأولمبية على بعد ساعات. والعالم ينتظر كيف سيرفع العلم الإسرائيلي في سماء المانيا لأول مرة بعد الحرب العالمية وكيف سيخطوا يهود بأمان فوق أرض ألمانيا بعد هذا الانفجار الكوني المفتت لكل مكونات الهوية والتاريخ الالماني واسمه المحرقة. لقد حرق مجرمو النازية يهودا ولكن المحرقة حرقت كل شيء كانت ألمانيا أمة الشعراء تريد أن تكون.ركزت شاشات التلفزيون على العلم الإسرائيلي وابتهجت المانيا أن العالم الذي احتقرها ونبذها وشجبها وعزلها وأذلها وبصق على شرفها جاء اليوم يبارك لها عودتها الى منصة الأمم ويسلم عليها مهنئا بأنها دخلت باحة الشعوب المقبولة من جديد. وها هو فريق رياضي يهودي يقبل على نفسه أن يكون ضيف ببلد الهولوكوست اذي أرادت له أن يطوى دون أن ينسى. ثم فجأة؟؟
ذهلت ألمانيا من أن دما يهوديا يراق فوق أراضيها في هذا اليوم. يوم عرسها المتجدد. يوم عودتها. يوم تحقق الحلم. رأت ألمانيا أن هؤلاء العرب الفلسطينيون أفسدوا هذا العيد وتلك العودة. أصحبت الالعاب الأولمبية حينه (ترجيحة) على الكابوس الألماني الماحق. لطت ألمانيا وجهها من الحدث الذي أثار كل مخاوفها وعقدها وأطلق كلاب كوابيسها وغيلان ماضيها من عقال. حملت المانيا منظمة التحرير مسؤلية العملية. الأجيال الألمانيا تكره هذه الحادثة وتحمل الفلسطينيين مسؤوليتها.
بهذه السطور وصفت لكم موقع عملية ميونخ في الوعي الألماني. هذا موقفهم وهذه رؤيتهم. وهي تختلف عن الرؤية الفلسطينية لشعب احتاج لتكذير العالم بأنه منسي ولا يريد الاختفاء. هنا مزكز تضارب الرؤى والمنطلقات. ويجب العلم بوجهة النظر الأخرى حتى عندما لا نأخذ بها, وهذا هو أليف باء التوعية.
كان عمري سنة واحدة.
وبعد خمسين عاما من ذلك لم أشارك بأي ندوة الا وطلب مني توضيح موقف فلسطين من هذه العملية.
كيف اثرت العملية على الفلسطينيين؟
بعد صدمة الألمان مما يعتبرونه كارثة تحركت ألمانيا ضد الوجود الفلسطيني فوق أراضيها.
تم تسفير عشرات الفلسطينيين من ألمانيا وتم اعتقال والدي محمد نزال وتسفيره للجزائر وعادت والدتي بي سنة 1972 لفلسطين حيث بقيت فيها بالمدارس حتى انهاء التوجيهي. تشتت شمل أسرتي بعد هذه العملية. لم نلتق بعدها بأجمعنا حتى اليوم. أحدنا يكون خارج البلاد عندما يجتمع الباقون مرة كل خمس سنوات. والدي منع من دخول فلسطين حتى تأسيس السلطة الوطنية ليعود عام 1994. لم أجتمع بوالدي بعد التسفير حتى عام 1990.
التقينا بعمان وكنت آت من أرض الانتفاضة بعد اجتياز التوجيهي. خلال الانتفاضة الأولى أغلق الاحتلال الجامعات ثلاث سنوات. كنت قدمت امتحان القبول في بيرزيت وقبلت بها سعيا للالتحاق بناظام التعويض والمواد الاستدراكية. يذكرها أحدكم؟. أستعد للدراسة فيها رافضا الدراسة في الخارج حتى لا أساهم في افراغ فلسطين من الشباب وكان لدي كابوس من هذا وانا أرى الشباب تستشهد أو تسعى للدراسة في الخارج. اعتبرت الدراسة في الخارج خيانة للانتفاضة. ولكن كيف تدرس بدون جامعات في فلسطين؟قدمت امتحانات التوجيهي من مكان غير معتاد تجنبا للاعتقال وكنت رئيسا للهيئة الادارية لحركة الشبيبة الطلابية في قباطية التي حظرها الاحتلال. حاول والدي اقناعي بالدراسة في الخارج على مقربة منه وتمنعت في ذلك كثيرا. وكان ذلك بحضور القائد الشهيد الأديب الزرعيني رحمه الله وهوصاحب محضر ودي طيب, وحضور سمير أبو علي (التانك) ومحمود نزال (الملقب بالعالول) وجميعه حارب مع المنظمة في لبنان. في البداية تقبلوا رأيي ولكن في اليومين الأخيرين من اقامتي في عمان خاطبني المرحوم أبو أسامة الأديب حنايشة رحمه الله مشيرا بيده التي فيها أربعة أصابع فقط إذ خسر خامسها في حصار بيروت قائلا: عمي جمال... نحن نحتاج لشبابنا أن يدرسوا في فلسطين ولكن ايضا في الخارج. الثورة مولت عبر التاريخ منحا طلابية في الخارجت وإن تكن الآن قد توقفت. أنا أعطيك باسم الثورة الفلسطينية تصريحا معنويا للدراسة في الخارج لخدمة بلدنا. توكل على الله يعمي.
ابتهج والدي بما سمع ولما يعلق عليه. واقشعر بدني من فكرة الدراسة في الخارج. لكنني قفزت في الماء البارد. عدت لفلسطين وودعت والدتي. غادرت فلسطين في تشرين أول أكتوبر 1990في صباح مشمس وظلت الدموع في عيني حسرة على فراق جدي الضرير الذي أمسك بشباك السيارة المغادرة للجسر وهو يبكي لان بيتنا سيفرغ من آخر رجل كان سيؤنس وحدته في هذا البيت الذي منع كل رجاله من العودة لفلسطين وجاء دوري للمغادرة. قفزت في ماء غربة بدولة أجنبية وكان باردا جدا. (مكنش كل واحد معه تلفون ووتس آب_ كان في مكاتيب بتقعد شهر في الطريق).يعني الغربة كانت غربة حقيقية مش مثل اليوم كل خمس دقايق اتصال فيديو. ظل ماء الغرب باردا حتى بعد ثلاثين سنة من السباحة فيه.
عملية ميونخ في الحقائب على شكل محددات اعلامية.
منذ ثلاثين عام اتردد على المانيا تارة للاقامة والزيارة وتارة للعمل. وصلت المانيا أثناء حرب الخليج. كان والدي رئيس اتحاد طلبة طلبة فلسطين في المانيا ولاحقا أمين سر حركة فتح فيها ويجري باللغة الألمانية ندوات باسم فلسطين بمقابلة متحدثين امريكيين ينوبون عن الإسرائليين. بعد مؤتمر مدريد صارت ندوات واجهنا فيها الإسرائليين. لم اشارك بندوة الا وطرح فيها موضوع عملية ميونخ بصفتها اعتداء فلسطيني على المانيا حسب المفهوم السائد. كنت أتعلم اللغة الألمانية عندما حضرت ندوة شارك فيها والدي بمواجهة صحافي امريكي يهودي صرخ بصوت عال موجها الكلام لوالدي في قاعة بها 200 شخص من الصحافة: إن ارهابكم عبأ الدنيا منذ عملية ميونخ وأنتم تقتلون المدنيين. وفقد صوابه وهو يصرخ حتى سقط الميكروفون من يده وا رتبك. ثما جاء الدور على والدي وتناول الميكروفون مبتسما وافتتح الرد: لقد سقط هذا الميكروفون من يدك لانه لم يحتمل مقدرتك على استخدامه للكذب. ولو كنت أنا الميكوفون لسقطت أيضا من فرط عماك عن الحقيقة. ضحك الجكهور من الصحافي الأمريكي العصبي.واصل والدي حديثه وعرض قصة الشاب منفذ عملية الخضيرة وهي أول عملية تفجير في إسرائيل وخرجت من قباطية. ورفض تقبل شجب المتحدث الامريكي الذي ووصفها بالارهابية. وتحدث والدي عن شاب منعه الاحتلال من أي فرصة للحياة فلم يبق أمامه من أمل. صفق مئات الحاضرين احتراما لحياة هذا الشاب علما بأن فتح اختلفت لاحقا مع هذه الأعمال ولكنها في الساحة الدولية لم تقبل ولم تسمح بإدانتها.
ثلاثون عاما وأنا أدرس الموقف الفلسطيني من عملية ميونخ التي لا تفارق اسم فلسطين في ألمانيا. يستعملونها كالمخرز لكن يد أبو مازن صدت المخرز. نعم أسقطوا السماء على رأسنا إعلاميا لكن لن يستطيعوا تجاهلنا. وفي الحقيقة لقد صدم الاسرائيليون يوم استقبال الرئيس عباس لبايدن في بيت لحم وكيف تحدث أمامه ليعري إسرائيل بعبارات قاسية يخشاها كل سياسي غربي. الصراحة الفلسطينية تدخل حيز المحرمات في الغرب.
تشكل عملية ميونخ مادة استنزاف اعلامي صهيوني الماني يستخدم لنحر الصورة الفلسطينية. وهي الى جانب خطف الطائرات وتفجيرها تعتبر أكثر المواضيع التي يركز عليها أتباع الصهيونية في محاولات دمغ النضال الفلسطيني بوصمة الارهاب الذي يستهدف المدنيين.
أنماط الرد الاعلامي الغربي على النضال الفلسطيني واشكاله ومواقعه وأزمانه:
لا تجد في الصحافة الغربية بين 1990 و 2005 شجبا لعمليات فتح التي استهدفت المستوطنات أو الجيش الإسرائيلي. بطولات فتح موثقة في مجابهة جيش الاحتلال في الكرامة ولبنان والانتفاضة الثانية. ويعرف جميعنا موقف فتح خلال الانتفاضة الثانية من تفجير الباصات وموقف الشهيد ياسر عرفات من كل واحدة منها.
رأيي: يتغنى كثيرون بأن استهداف المدنيين عمل ارهابي ويتلكأون في إدانة استهداف اسرائيل المدنيين الفلسطينيين يوما بيوم. لكن مطلوب منا نحن فقط أن نعتذر عن شيء مضى عليه خمسمون عاما وقد قتلت إسرائيل منا خمسين شخصا في اليومين الأولين من عدوانها الأخير على شعبنا في غزة! مع ذلك حرصت فتح على الانصات للعالم دون أن تمتثل له كليا. قاتلت فتح بالعتاد العسكري الثقيل طوال السبعينيات والثمانيات ولم يقل أحد هذا إرهاب.
أصوات الجهلاء تنضم لإسرائيل في الحملة ضد الرئيس.
ما يميز قتال فتح هو أنها تركز على المواجهة المباشرة وجها لوجه.. عين في عين مش من بعيد لبعيد. وهي تفعل ذلك في المقاومة الشعبية وغير الشعبية ولكن وجها لوجه. هذه الشجاعة الفتحاوية هي اكثر ما يعجبني في هذه الحركة. منافسو حركتنا متخصصون بعدم المواجهة البرية بل من بعيد لبعيد ولا يشاركون حتى بالمقاومة الشعبية. قتال فتح في الحرب البرية أوقع في لبنان خلال 88 يوما فقد 676 قتيلا عسكريا إسرائيليا و15 ألف جريح. خلال الانتفاضة الثانية شارك الأمن الفلسطيني وتكبدت اسرائيل الف قتيل. وثيقة الأسرى التي اصبحت فيما بعد وثيقة الوفاق الوطني نصت على تركيز الكفاح الفلسطيني في حدود عام 1967 وهذا أهم إجماع فلسطيني في حينه. لا يوجد لحماس على سبيل المثال تخصص في المجابهة البرية العريضة. ولهم عملية برية واحدة واحدة وفشلت. لقد نفذوا كمائن كثيرة نجح بعضها ولكن لا خبرة لهم في الحرب البرية والمعارك البرية على الأسلوب الفتحاوي. ملاحظة: حماس تحظر على مؤيديها قراءة تاريخ الثورة الفلسطينية.
تستطيع فتح أن تبصر على تاريخ طويل من قتالها الاحتلال. منفذ عملية وادي الحرامية أوقف سيارة بها امرأة وطفلان وأمرها بمغادرة المكان. الاعلام الغربي شجب التفجيرات في اسرائيل ولم يشجب عمليات الانتفاضة التي وقعت في الأراضي المحتلة منذ عام 1967. وثيقة الأسرى الصادرة عام 2006 بنت على ذلك.
بخصوص ذكرى عملية ميونخ لوحظ هذا العام إن كيان الاحتلال المسمى إسرائيل قاطعت مراسم إحياء ذكرى ضحياها لتوجه رسالة احتجاج ضد المانيا حيث تعتبر اسرائيل أن الشرطة الألمانية هي التي قتلت الرياضيين في الاقتحام الذي اسفر عن مقتلهم وهذا تقرير هآرتس قرأناه قبل أسبوع بهذا الخصوص.
ختاما
الشعوب التي توزع علينا علامات لا رصيد لها في تحدي عالم كامل من أجل مكافحة النسيان كما نفعل. أبو مازن شجاع ومستعد لتحمل الكدمات في مزاحمته من أجل إنفاذ قصبة السبق في الحقيقة الفلسطينية إلى الجيل القادم لأن سفر الحكايات الفلسطينية وفصول رواياتها ممنوع تعريضه للتشفير بما فيه من صفحات مجيدة أو نقاط ضعف أو أخطاء قديمة. الشيء الفريد في الرئيس أبو مازن أنه لا يخيط ثوب الحقيقة على مقاس سامعه! عند أبو مازن مقاس واحد لألبسة كل السامعين. فمن السامعين من أهل العدل من يسمع حقيقتنا فتأتثيه ثوبا يستر عورته ومن السامعين من يتطاول على ثوب الحقيقة الفسطينية قيأتيه قميصا مقدودا من قبل يكشقف قفاه وجبنه وخوفه إن هو رعديد لا يطيق سماع رواية شعب لديه رئيس شجاع.
الحق علي؟
يقولون أن ثمة في إعلام الطهاميس تطاول علينا الآن. بعد التحية والسلام ذكروهم بما هو آت: لقد خسرت إسرائيل في شهري نيسان وأيار 2022 بعمليات حصلت في الضفة الغربية أو أنطلقت منها عدد 24 من القتلى. وفي عدوانها الأخير ضد شعبنا في غزة خسر الاحتلال صفر جرجى وقتلى.
ما أهمية الأسلوب في كل موقع وكل زمان؟ بهاء ياسين الذي قال يوما قومي يا ضفة ودافعي عن شرفك فقد شرفه ووضع قلمه في محبرة لا حبر فيها. فتح دايما قدامهم بس من فوق. تنسوش احنا مين مشان تحكوا لهم هم من وين.
لا تعتذر إلا إن أخطأت. ولا تغمض عينيك عن الجانب الآخر من الرواية. ما لدى فتح من وعي غير متوفر عند كثيرين.
يطلبون منا الاعتذار عما قبل خمسين عاما. و هناك من يحسدنا على أن رصيد أخطائنا المزعومة يعود ستين عاما للوراء من العمل الذي تأخروا عنها حتى عام 1988
mat