لكل شيء نهاية والصهيونية كذلك
نشر بتاريخ: 2022-08-13 الساعة: 12:03
باسم برهوم
يتحدث كثيرون عن قوة الصهيونية العالمية، وانها قوة لا تقهر، وان لها نفوذا في كل زاوية من هذا العالم. قد يكون هذا الاعتقاد في التحليل العام صحيحا، فمن دون شك ان الحركة الصهيونية تستند الى القوة المالية الضخمة لليهود، وكما يقول المثل "معك قرش بتسوى قرش" فما بالك ان كان الحديث عن قوة مالية تقدر بعدة ترليونات من الدولارات. ولكن ايضا ما يجعل الصهيونية قوية انها تمتلك التنظيم والتخطيط والاهداف وتتمسك بتنفيذها، كما يمثل اليهود قوة علمية وثقافية لا شك انها ممتميزة، وكل ذلك تستفيد منه الصهيونية العالمية وتكرسه لما يحقق اهدافها.
ومع ذلك قوة الصهيونية نبعت اساسا من كونها مشروعا استعماريا استراتيجيا للغرب الامبريالي، ولكل القوى الطامحة ان تكون إمبريالية في هذا العالم، فهناك عوامل قوة ذاتية وهي ملموسة ومؤثرة، وعوامل موضوعية تستفيد كثيرا من قوة الدفع الصهيونية الذاتية، هناك التقاء في المصالح يكاد لا ينفصم بين الصهيونية والغرب الامبريالي. وعبر التاريخ كان هذا الامر بمتهى الوضوح، اولا في النظام الدولي الذي انبثق عن الحرب العالمية الاولى (1914- 1918) عندما تبنى المنتصرون وتحديدا بريطانيا المشروع الصهيوني، واحتلت فلسطين عام 1917 ومعها وعد بلفور، الذي حولته عصبة الامم انذاك الى هدف يجب ان تحققه سلطة الانتداب على فلسطين. وكان مرة اخرى بمنتهى الوضوح خلال وبعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وما انتجته من نظام دولي جعل من مسألة إقامة دولة إسرائيل اولوية الاولويات بعد الحرب.
وبعد إقامة إسرائيل عام 1948، على حساب الشعب الفلسطيني، واصل الغرب الامبريالي دعمه لإسرائيل وجعلها قوة مسيطرة ومتفوقة في الشرق الأوسط، وخلال ذلك كانت الصهيونية تعزز وتعمق من نوفوذها مستغلة تبني الغرب لمشروعها، لما فيه خدمة مصالحه. دعونا نخضع كل ذلك لمنطق التاريخ، فإن الفترة منذ أسس هرتسل الحركة الصهيونية رسميا عام 1897 وحتى الآن، تمثل العصر الذهبي للصهيونية العالمية، او انها في عمر الشباب بالنسبة لهذه الحركة والمتجسدة منذ 75 عاما بدولة إسرائيل. ولكن التاريخ علمنا ان كل شيء يشيخ ومن ثم يتلاشى تدريجيا او ربما يتحول واحدا كبيرا، والصهيونية العالمية ومعها إسرائيل.
ما الذي يحافظ على وجوده ويستمر رغم كل عوامل التاريخ الجانبية؟ انه الحقيقة التاريخة، الحقيقة المتجسدة بحالة جيوتاريخية رسخت اقدامها ولا يمكن الغاؤها، وهي في هذه الحالة فلسطين وشعبها المقيم عليها منذ العصور القديمة.
وفي السياق ذاته فإن النفوذ الصهيوني قد بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية، وهو النفوذ الذي دونه ما كانت إسرائيل قد وجدت، وفي حينه حظيت الصهيونية بدعم الدولتين الاعظم اللتين خرجتا منتصرتين من الحرب، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. في اعتقادي ان تلك المرحلة تمثل العصر الذهبي للحركة الصهيونية، خصوصا بعد المحرقة النازية لليهود خلال الحرب، وكان تأثير اللوبي الصهيوني على الرئيس الاميركي ترومان قويا جدا، حتى ان هذا التأثير نجح في حين في لي ذراع خبراء وزارتي الخارجية والدفاع اللتين لم تكونا متحمستين لتأسيس دولة إسرائيل.
اما الاتحاد السوفياتي فقد ساد الاعتقاد لدى ستالين وقيادة الاتحاد، ان الحركة الصهيونية تقاوم الانتداب البريطاني، وانها تسعى للاستقلال عنه، إضافة الى وجود التيارات الاشتراكية والشيوعية داخل هذه الحركة التي رأى ستالين انها تستحق الدعم اذا ما قورن الوضع مع الفلسطينيين والعرب الذين كانت تحكمهم زعمات إقطاعية. لقد ترجم موقف الاتحاد السوفياتي دعما سياسا، بل وحماسا قويا في الامم المتحدة لاقامة إسرائيل، كما سهل للحركة الصهيونية الحصول على الاسلحة عبر تشيكوسلوفاكيا، ولم تتنبه موسكو الى كون الحركة الصهيونية حركة عنصرية واستعمارية الا في وقت متأخر وحسمت موقفها منها اكثر بعد حرب 1967.
قد يبدو للمراقب العادي ان النفوذ الصهيوني اليوم في ذروته، ولكن وإذا تعمقنا في واقع إسرائيل سنلاحظ انها تتحول الى دولة دينية في ظل تراجع الصهيونية العلمانية الليبرالية. فإسرائيل التي كان يتخيلها مؤسس الصهيونية هرتسل، بان ستكون دولة يهودية ديمقراطية، لم تعد موجودة، فالعالم اليوم امام دولة عنصرية متتطرفة يغالب الطابع الفاشي. وفي الولايات المتحدة اليوم يواجه اللوبي الاسرائيلي "ايباك" تحديا من تنامي قوة منظمة "جي ستريت" اليهودية الليبرالية المؤيدة للسلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين ومبدأ حل الدولتين، فهذه المنظمة، وهي الاقرب للحزب الديمقراطي، تحاول كسر الخطاب الاحادي للايباك، الذي ينادي بدعم إسرائيل ظالمة او مظلومة، فمنظمة جي ستريت هي نسخة قريبة جدا من حركة السلام الإسرائيلية، تقف ضد الاستيطان ومع إقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب إسرائيل.
ومن زاوية اخرى، صحيح ان إسرائيل قد وضعت نفسها ضمن خريطة الدول المتقدمة تكنولوجيا، وخاصة في المجالات الامنية، الا ان إسرائيل ينخرها السوس الايديولوجي الرجعي المتعفن، فهي دولة متطورة من جانب ومن جانب اخر هي دولة من مخلفات القرن التاسع عشر فكريا، دولة تطهير عرقي وأبارتهايد، دولة من زمن الاستعمار القديم. هذا التناقض بين الشكل والمضمون لن يحل الا عبر طريقين: ان تتحول إسرائيل الى دولة دينية متطرفة وتنفجر من الداخل، او ان تتخلص من عنصريتها وتطلعاتها التوسعية وتعيش بسلام الى جانب دولة فلسطينية وفي المنطقة والعالم. وفي كل الامرين تكون الصهيونية قد انتهت وتصل الى نهايتها.
وكما لكل شيء نهاية فإن للصهيونية نهاية، وهي دخلت مرحلة العد العكسي، فما نراه اليوم ان الفكرة آخذة بالتآكل او على الاقل النسخة الحالية من الصهيونية تختلف عما اراده هرتسل ووايزمان وبن غوريون، وهي حتى ليست صهيونية غولدا مائير او رابين او بيرز، انها صهيونية متحجرة جسدها يعيش مع العصر، لكن روحها تمثل الجانب المظلم من التاريخ. فهي تغلب الاسطورة الاحادية على الاندماج والحوار والتسامح.
mat