الثوب الفلسطيني الكنعاني في معركة الهوية والتراث
نشر بتاريخ: 2022-07-26 الساعة: 12:17
عبد الغني سلامة
منذ قيامها، تواصل إسرائيل بذل ما بوسعها لسرقة ومصادرة التراث والفلكلور الفلسطيني، ونسبه إليها، فبعد أن نهبت الأرض، وهجّرت سكانها الأصليين، بدأت في قرصنة التراث الفلسطيني بكافة مكوناته المادية والمعنوية من أزياء، وأكلات شعبية، ونباتات وحيوانات محلية، ومقتنيات أثرية وغيرها، في محاولة منها لإلغاء الهوية الفلسطينية، وإثبات حقها المزعوم في أرض فلسطين، والادعاء بامتلاكها تراثاً إسرائيلياً عريقاً، ولتعويض النقص الفادح والمكشوف في التراث الإسرائيلي المفتقر أساساً لأي مكون مادي أو معنوي حقيقي، وهي محاولات مكشوفة، لأنها مبنية على ادعاءات زائفة.
وهذا النقص في التراث لأن ما يسمى الشعب الإسرائيلي هو في الأساس ليس شعباً نما وتكون وتطور بصورة طبيعية وفقاً لقوانين علم الاجتماع، إنما هو خليط من جماعات يهودية أتت من مختلف بقاع العالم، ولذلك ليس لديه تراث شعبي مشترك.
فمثلاً حاولت إسرائيل أن تختار طائراً وطنياً يصلح لها كرمز، فاختارت «عصفور الشمس»، ثم اكتشفت أن الاسم الشائع لهذا الطائر هو Palestine sunbird أي عصفور الشمس الفلسطيني، فأحجمت عن المحاولة، كما حاولت نسب حيوان آخر لها، وهو "الكلب الكنعاني"، ورغم وضوح اسمه، إلا أن إسرائيل حاولت تسويقه إعلامياً باعتباره "كلباً إسرائيلياً"، كما حاولت نسب الحمّص والفلافل والتبولة وخبز الطابون على أنها أكلات شعبية إسرائيلية.
أما المعركة الأبرز في هذا السياق؛ فتدور حول الثوب الفولكلوري الفلسطيني، فمثلاً عمدت إسرائيل إلى إلباس مضيفات شركة طيران "العال" الثوبَ الفلسطيني، مع أن أهم الزخارف التي تزينه تسمى "نجمة كنعان".
وخلال ما أطلق عليه تسمية "أسبوع تل أبيب للموضة"، ظهرت العارضات الإسرائيليات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض، في محاولة لسرقتها، مع إضافة "نجمة داوود".
ومن الأمثلة الإضافية على ممارسات إسرائيل تجاه الثوب الفلسطيني: ما تفعله مؤسسة "دايان"، حيث قدمت خلال معرض أقامته في فندق بتل أبيب الثياب والأزياء الفلسطينية على أساس أنها تراث يهودي، كما قامت بمصادرة أوانٍ فخارية مصنوعة بأيدٍ فلسطينية بكل دقة ومهارة، وقدمتها على أنها صناعة إسرائيلية قديمة.
وفي مسابقة ملكة جمال الكون التي استضافتها إسرائيل في مدينة إيلات، في شهر كانون الأول 2021، جعلت المتسابقات يرتدين الثوب الفلسطيني المطرز، بما يوحي للعالم بأن هذا الثوب تراث إسرائيلي! لكن الفلسطينيين ردوا بقوة، وتوجهوا إلى منظمة اليونسكو لتبيان زيف هذا الادعاء، وبالفعل، اعتمدت اللجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي غير المادي في منظمة "اليونسكو"، الطلب الفلسطيني إدراج "فن التطريز في فلسطين: الممارسات، والمهارات، والمعارف، والطقوس" في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وذلك خلال اجتماعها الذي عُقد في باريس، يوم 15-12-2021.
لكن الثوب الفلسطيني يتعرض لحملة ممنهجة أخرى من مصادر أخرى غير إسرائيلية، وبتبريرات أيديولوجية، لاستبداله بما تسميه "الزي الشرعي". فمثلا استخدمت حركات الإسلام السياسي الحجاب والجلباب كأداة في معركتها السياسية والحزبية، فتحول من كونه اختياراً شخصياً، أو قناعة دينية إلى هوية سياسية تفرضها الحركات الإسلامية على النساء في المجتمعات التي تتغلغل فيها، أو تسيطر عليها، فأصبح شكل الحجاب، ولونه، وطريقة ارتدائه دلالة على مدى قوة وسيطرة هذا الحزب، أو ذاك التوجه الأيديولوجي. وبذلك بدأ الثوب الفلسطيني يختفي تدريجياً.
وفي لقاء مع الفنان الفلسطيني عبد الرحمن المزين، قال إن قطاع غزة قبل "المد الوهابي" كان ذا طابع وثقافة مدنية، فمثلاً كانت الأسواق الشعبية تعج بالنساء، وكانت النساء لا يرتدين سوى الثوب الفلسطيني الفلكلوري المطرز بالحرير، بألوانه الزاهية الجميلة النابضة بالحياة، فكان المشهد أشبه بمهرجان فن شعبي، وكان الثوب يُفصح عن هوية صاحبته، فتعرف من لونه ومن نقشه وزخارفه أن تلك السيدة من المجدل، أو من عسقلان، أو من يافا، أو بئر السبع، أو من رفح.
اليوم، اختفى الثوب الفلسطيني التقليدي من شوارع غزة تماماً.. ولم تعد ترى سوى اللون الأسود، أو الجلباب التركي.
لا نناقش هنا موضوع زي المرأة من منظور اجتماعي أو ديني؛ فالثوب الفلسطيني معروف أنه يغطي كامل الجسد، ويتضمن أيضاً غطاء للرأس، وهو لا يشفّ ولا يصف (حسب التعبير الإسلامي)، وكانت أمهاتنا وجداتنا (وما زلن) يرتدين هذا الثوب بكل فخر، وكان مقبولاً اجتماعياً ودينياً، بل كان موضع اعتزاز، وتعبيراً عن التمسك بالتراث الوطني الشعبي. وأي كلام عن هذا الموضوع خارج عن هذا السياق مجرد لغو وهراء.
وحتى اليوم ما زال الكثير من السيدات الفلسطينيات (وبشكل خاص المتقدمات في السن) في معظم القرى والبلدات يرتدين الثوب المطرز بشكل شبه دائم.
أما لدى الجيل الجديد فترتدي النساء إما الحجاب، أو الملابس العصرية، وبالطبع هذه مسألة حريات شخصية، ولا اعتراض عليها، ولكن ما يبهج القلب، رؤية السيدات والصبايا وهنّ يرتدين الثوب الفلسطيني التقليدي في الأعراس، أو في الاحتفالات والمناسبات الوطنية..
وهناك مبادرات أهلية عديدة لتشجيع النساء على ارتداء الثوب المطرز، مع محاولات إدخال تحسينات وخطوط حديثة على الثوب، وجعله مواكباً لروح العصر، وأكثر جاذبية وأناقة، لتشجيع الفتيات بالذات على ارتدائه. وللأسف بعض تلك المحاولات راحت بعيداً، حتى أفقدت الثوب سماته الفلكلورية.. ولكن تبقى هذه وجهة نظر.
وقد خصصت منظمة التحرير الفلسطينية يوماً خاصاً بالتراث الفلسطيني، وهو (7-11) من كل عام.
وفي 2018 قررت السلطة الوطنية اعتبار يوم (25-7) من كل عام يوم الزي الفلسطيني، حفاظاً على تاريخ وتراث فلسطين، وصوناً له من السرقة والتهويد، كما قامت مبادرات فلسطينية عديدة، لتعزيز دور الثوب والزي الفلسطيني، مثل مبادرة "إلبس زِيك، مين زَيك"، ومبادرة يوم الزي الفلسطيني.
ففي معركة الوجود الوطني تصبح ديمومة التراث وحيويته والحفاظ عليه وتطويره من أقوى أسلحة المواجهة الحضارية الشاملة؛ فالتراث الشعبي الفلسطيني بكل أشكاله وتجلياته وإبداعاته يعد بمثابة وثائق ملموسة يستخدمها الفلسطينيون لتأكيد حقوقهم التاريخية والوطنية أينما حلّوا، وهو الدليل العبقري على تمسكهم بأرضهم، والشاهد الحي على تواصلهم التاريخي، والناظم لوجودهم الوطني، والمعبر عن هويتهم الحضارية بأجمل الأشكال وأكثرها فناً وإبداعاً، وهو الجسر الذي يصل الحاضر الفلسطيني بماضيه الكنعاني البعيد، من دون انقطاع.