صورة.. غسان كنفاني!
نشر بتاريخ: 2022-07-03 الساعة: 12:15
حسن حميد
قبل نحو شهرين، من يومنا هذا، تبادلت رسائل عدة مع أديب عربي، مهم في نصه، وفي تجربته، وفي رؤياه، قال لي: اقتربت ذكرى استشهاد غسان كنفاني، فهل ستكتب عنه كما اعتدت كل سنة؟ قلت: بلى. قال: لماذا، وما الذي تبقى ولم يُقل عن نص غسان كنفاني وحياته؟! قلت تبقى الكثير، لأنه كان رائداً في كل شيء، في زمن فتوة الروح الفلسطيني الذي نهض بكامل حضوره رغم الحزن العميم، ولأن الأحلام الكبيرة تضيء أكثر، وهذا ما كان في عقد الستينيات كتجل تمظهر في حضور الفدائي، والبارودة، والعزم، واشتقاق الدروب، حتى لو كانت وعرة، نحو الوطن الفلسطيني العزيز، والريادة تعني البراعة في نقل أحلام الحياة من عالم التصور إلى عالم الواقع.
وريادة غسان كنفاني ريادات، ففي قصصه المبكرة، وهو ابن عشرين سنة، أدان الانتظار، ونادى بالعمل، واستلّ كلّ ما هو جميل في التراث الوطني الفلسطيني، وبه عرّف الخلق إلى أيّ مجد ينتمون، وإلى أي سلالات إبداعية ينتسبون، وفي الرواية كانت مئة صفحة من السرد المضيء كافية لتكون حجر الزاوية لمدونة السرد العربي، حين قال بصوت جهير، إن إدارة الظهر للوطن الفلسطيني موت، ومكان الموت (المزبلة) وليست (المقبرة)، وفي دراساته النقدية، راح يبحث عن كلّ صوت شعري وسردي وفني لدى أبناء شعبنا الذين تجذروا في أرضهم عام 1948، لأنه رأى فيهم ملحمة الوحدة الثقافية الفلسطينية ما بين الداخل والمنفى، وفي عمله الصحفي جعل كلّ شيء يدور حول فلسطين، المقال السياسي، والاستطلاع الاجتماعي، والبحوث الاقتصادية، والكلمات المتقاطعة، والأبراج ..كلها جعلها حقول عباد شمس، أقراصها تدور حيث يدور المعنى الفلسطيني، وقد كان الأمر كذلك في رسمه، ومؤتمراته الصحفية، وفي حواراته الصحفية والإذاعية.
قال لي أحد عارفيه، وهو صحفي لبناني، توفي قبل سنة، رحمه الله، في الصباح كان غسان كنفاني يأتي إلى المقهى، هنا في شارع الحمراء، يدخل مثل عاصفة، فيصير هدوء المقهى طيوراً صاخبة، لأن الأصوات المتداخلة والعالية أحاطت به، وهو يستمع ليعرف أهم ما في صحف اليوم من قولات رواد المقهى، حتى ليصير المقهى مرآة لما قالته صحافة بيروت، وينفي غسان كنفاني أمام الآخرين أنه كتب المقطوعات الوجدانية في الصفحة الأخيرة من هذه الصحيفة أو تلك، ولكن الكثيرين، ممن يعرفونه، يدركون أن كلّ متغيب عن كتابة مادته في الصحفية، لسبب أو لآخر، كان غسان كنفاني يكتب مادته نيابة عنه، وبأسلوب يختلف عن أسلوبه!
وتتجلى ريادة غسان كنفاني أيضاً في سلوكه الشخصي، فقد جعل المخيّمات الفلسطينية في لبنان مناجم للأخبار، والقصص، والأحداث، والحادثات بعدما أدام زيارتها، هو والوفود العربية والأجنبية التي ما كان أفرادها يعرفون شيئاً عن الواقع الفلسطيني في المنافي، وفي المخيّمات راح يشجع كلّ صاحب موهبة في أيّ شأن من شؤون الحياة، فهو، وعبر عينه الرائية اكتشف مواهب الرسامين ، والشعراء والقصاصين، وقال للجميع: المدرسة هي جنتكم، وهي كتابكم، وهي دربكم إلى وطنكم العزيز فلسطين، ولا كرامة لنا إلا بما تخترنه أرواحنا من حبّ لفلسطين التي هي الأرض والتاريخ والتراث والعقيدة والحلم، وأن المنفى ذل، والعزّة التّامة هي عزة الأوطان!
وريادة غسان كنفاني، كانت في كتابته، أي في مشغله الإبداعي، فقد كان يكتب أكثر من رواية في آن واحد، وأكثر من مسرحية في آن واحد، ويقرأ في أكثر من لغة وفي آن واحد، ويكتب أكثر من مقالة صحفية، وفي موضوعات مختلفة، وفي الليلة الواحدة، ويرسم، ويكتب البيان السياسي الذي سيفتتح به مؤتمره الصحفي في صباح الغد، وباللغتين العربية والإنجليزية.
بلى، نكتب عن غسان كنفاني بدموعنا، وأشواقنا، وحزننا لأنه لم يعش طويلاً لنرى حقول إبداعه واتساعاتها البهيجة،لأن كلّ هذه الكتابة الكنفانية في القصة، والنقد، والرواية، والمسرحية، وأدب الأطفال، والمقالة، وكلّ رسومه وقولاته، كانت حصيلة عشر سنوات فقط، وهو الذي تناهبته جهات عدة لكي تحظى به: الصحافة، والثورة، والسياسة، والأدب، والنقابات، والمؤتمرات الشعبية، والمقاهي الثقافية، والشهرة، والترجمة، والفنون! لذلك كان الكائن النوراني الذي لم تشبع منه: الحياة، والكتابة، والإبداع، والفنون، والصحافة، والثورة، والمؤتمرات، والمقاهي، والشهرة، والترجمة، والفنون، حتى أهله، ونحن منهم، لم نشبع من التحديق في صورته بعد!
mat