مسافر يطا.. طفلة في (منطقة إطلاق النار)
نشر بتاريخ: 2022-06-09 الساعة: 12:26
موفق مطر
جرف المحتلون منزل عائلتها، فتحطمت ألعابها تحت الركام، فلم تجد ما يلبي رغبة طفولتها في اللعب، فلجأت إلى ظل شجيرة مقاومة للجفاف، وجلست خلف ظهر أمها، لترتب أغطية عبوات ماء بلاستيكية، وتجبل بقايا اسمنت ورمل فتصمم ميدالياتها الخاصة، قد لا تتجاوز ربيعها الثالث لكن إشعاع الإبداع والإرادة كان باديا على عينيها الجميلتين، ليسبق إشعاعا ذهبيا منعكسا من بعض خصلات شعرها المستريحة على محياها الذي طغت عليه ملامح قسوة المكان وظروف عيش أقل ما يقال فيها إن الساكنين هنا في (مسافر يطا) هم الذين منحوا الشعراء والساسة مصطلح الصمود.
ما بين الطفلة وجدتها التي تبدو وكأنها من مواليد النكبة حوالي ثلاثة أجيال، وبإمكانك كباحث عن الحقائق هنا على وجه هذه الأرض ووجه إنسانها الفلسطيني قراءة أسفار العذاب وآيات الإرادة والصمود، فبالأمس تجسدت أمامي في مسافر يطا مقولتي بأن لفلسطين آدمها المخلوق من ترابها، آدمها الذي لم يسبقه واحد من أبناء آدم إليها.
أمس الأول أخذتنا وزارة الاعلام -كعادتها- إلى دائرة جديدة من دوائر الصراع لتثبيت الوجود على أرض الوطن، ودائرة الانتصار للإنسان الفلسطيني المواطن وحقه في الحياة الأبدية أينما شاء في وطنه التاريخي والطبيعي، لكن هذه المرة بمشاركة وزارة العدل وهيئة مقاومة الاستيطان وجدار الفصل الجدار العنصري، ومنذ اللحظة الأولى التي دخلنا فيها الطريق الترابية الوعرة المتعرجة كثعبان، بدأت أشعر بتسلل الخجل والحياء إلى نفسي، فيما التلال الجافة القاحلة تقطع على بصري رؤية الأفق، أتطلع لرؤية ما يطمئن بأن للحياة مكانا هناك، سوى بعض مساحات صغيرة جفت فيها سنابل الشعير، لا نعرف كيف نمت في هذه المنطقة، نترقب الوصول فيما أجسادنا تهتز في عربة رباعية الدفع، نحن الذين كنا قبل دقائق في حافلة حديثة مكيفة لا نكترث لساعات السفر، لكننا هنا بدأنا نترقب لحظة الوصول، لنكتشف صلابة إرادة صمود هذا الفلسطيني المصمم على البقاء ليس في منطقة إطلاق النار وحسب كما قرأنا في المنشور الموزع على الإعلاميين، بل هذا الفلسطيني الذي اختار الدرب الشاق الوعر، تاركا الدروب والأرائك والمقاعد المريحة - على تنوعها ومراتبها ليحافظ على أرض منحها اسمه الفلسطيني وسماته وخصائله العربية.
كان الذهول باديا على وجوه دبلوماسيين من دول صديقة رافقونا، عندما رأوا جريمة العنصرية الإسرائيلية بحق مواطن فلسطيني إنسان أقصى طموحاته مدرسة لأطفاله، وعيادة، وبيت من حجر يصمد في وجه الطبيعة بيت لا يترصد جيش الجريمة ضد الإنسانية ارتفاع جدرانه ليسارع لهدمه !! ومرعى لأغنامه وحلاله لا يدوسه جنود الاحتلال، يأتون بين الحين والآخر يهددون ويتوعدون بالخراب والهدم والتهجير.. وكل ذلك لوأد مستقبل الشعب الفلسطيني على أرضه، وتوسيع وكالة ونفوذ المستوطنين، ووكلاء المشروع الاستعماري على أرضنا.
طفلتنا المسافرة في زمن الصمود بلا حدود في مسافر يطا، تعيش في (مناطق إطلاق النار) حسب قرار ساسة وعسكر منظومة الاحتلال الاستيطاني العنصري (إسرائيل) فهذه المنطقة أعلنتها سلطة الاحتلال الإسرائيلي منطقة عسكرية في بداية السبعينيات بعد احتلالها في العام 1967، ثم (منطقة إطلاق نار) في العام 1980 وبعدها بخمس سنوات (1985) بدأت عمليات تدمير بيوت المواطنين بقصد تهجيرهم قسرا وإغلاق المنطقة، أشدها كان في العام 1999 حينما استلم سكان المسافر في شهر آب أوامر من سلطة الاحتلال العسكرية بإخلاء أرضهم وبيوتهم، ثم هَجَّرت بعد ثلاثة أشهر أكثر من 700 مواطن بالقوة، وحملتهم بالحافلات إلى جانب تحميل ماشيتهم إلى خارج موطنهم المسافر! ولتبرير عملية التهجير أعلنت سلطة الاحتلال (مسافر يطا) المؤلفة من 12 قرية (منطقة إطلاق نار) فباتت قرى: صفي الفوقا، وصفي التحتا، والحلاوة، والمركز، والتبان، وخلة الضبع ومغاير العبيد، والمفقرة، والطوبا، وجنبا والفخيت والمجاز، باتت بمثابة مركز عمليات لتبادل أدوار(لعبة التهجير) الممنهجة بين سلطتي العسكر (جيش الاحتلال) والقضاء الإسرائيليين، فصودرت شبكات المياه ذات الكلفة العالية، ومنع تعبيد الشوارع، وتزويد المنطقة بالطاقة الكهربائية، أما بنية الصرف الصحي فضعيفة للغاية، ولم تسلم المدارس من مخططات التهجير المعرفي والتعليمي أولا، فالمدارس الأربع وهي: جنبا الأساسية، ومسافر يطا الثانوية والمجاز الأساسية وخلة الضبع، وجميعها مختلطة أخطرت إداراتها بالهدم، وربما لا تجد طفلتنا بعد بضعة أعوام مدرسة فمدرستا جنبا والمسافر تحت تهديد قرار لسلطة الاحتلال بالهدم، لكنه موقوف مؤقتا بقرار من المحكمة العليا الإسرائيلية بعد التماس قدمه مجلس قروي المسافر، وقد لا تجد طفلتنا أو أقرانها عيادة من العيادات الخمس الموزعة على قرى في المسافر، أو قد لا تجد سيارة إسعاف إذا مرضت أو أصيبت – لا سمح الله– بعد تعمد قوات الاحتلال مصادرة سيارات وزارة الصحة الفلسطينية مرات عدة.. فهل ترانا سننتصر لطفلة مسافر يطا، لرمز مستقبلنا الوطني، قبل وأد الغزاة العنصريين الإسرائيليين لآمالها وآمالنا، ومستقبلها ومستقبلنا؟!.