سبع رايات وراية يتيمة واحدة..!!
نشر بتاريخ: 2022-04-26 الساعة: 14:43حسن خضر
تظهر في الصورة، التي يُراد لها أن تكون توثيقاً بصرياً، ووسيلة إيضاح لمظاهرة في الأقصى، سبع رايات لحماس، وراية يتيمة لفلسطين. كان هذا النوع من الصور، والمشاهد، بضاعة رائجة على شاشة «الجزيرة» القطرية، في الانتفاضة الثانية، ونراه هذه المرّة في صدر الصفحة الإلكترونية لجريدة يديعوت أحرونوت اليمينية الإسرائيلية.
وطالما تكلمنا عن أشياء من نوع «التوثيق البصري»، و»وسيلة الإيضاح»، فلنقل إن التقاط الصورة المعنية، واختيارها، ونشرها، والتعليق عليها، يفتقر إلى أدنى قدر من البراءة، سواء تعلّق الأمر بالمصوّر، أو محرر الجريدة، ونشرة الأخبار المتلفزة، أو كاتب هذه السطور. ولا يخفى على أحد من هؤلاء، وإن اختلفت الأسباب، أن ثمة رسالة سياسية، هنا، دلالتها الإسلام السياسي كهوية للمتظاهرين، والصراع في فلسطين عليها. وبما أن المعالجة الحالية لا تتسع لكل هؤلاء، نكتفي بتحليل حضور الصورة في الجريدة الإسرائيلية:
كانت الوطنية الفلسطينية، وما زالت، مسألة إشكالية وشائكة بالنسبة للإسرائيليين، وقبل هؤلاء آباء المشروع الصهيوني أنفسهم. فوجودها يعني الاعتراف بالفلسطينيين كشعب، وبالفلسطينية كهوية جامعة، وبالحركة الوطنية كتجسيد لحقوق ومصالح سياسية. وفي هذا كله ما يهدد بتجريد الدعاية الإسرائيلية من امتياز تفسير الصراع في فلسطين وعليها كصراع بين حركة قومية يهودية، وأقليات دينية وعرقية، ما دون قومية، تحركها مشاعر دينية معادية لليهود، وتجمعها عصبيات مناطقية وطائفية وعشائرية.
فالمهم أن الهوية الدينية لأعدائهم العرب (لم يعترفوا بنا كفلسطينيين إلا بعد عقود طويلة) لم تكن أقل ضرراً من هويتهم الوطنية وحسب، بل وكانت مفيدة، أيضاً، منذ ما قبل قيام الدولة وحتى يوم الناس هذا. فهي أقل ضرراً: لأن أولوية الديني في الصراع تعني تقليص مكان ومكانة السياسي، أي الوطني. ومفيدة: لأن تفسير الصراع بعداء «العرب» لليهود يمثل استثماراً ناجحاً في نفور الغرب من المعادين للسامية بعد الحرب العالمية الثانية، من ناحية، وفي المركزية الأوروبية ونفورها التقليدي من عالم «الإسلام» و»المسلمين» من ناحية ثانية.
وعلى خلفية كهذه يمكن فهم أمرين: التحدي الذي مثّله صعود الحركة الوطنية الفلسطينية، كجزء من حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، منذ أواسط الستينيات، ومحاولات الإسرائيليين والأميركيين، واليمين الديني والرجعيات العربية، فرادى ومجتمعة، التصدي لموجة الراديكاليات والوطنيات المُعلمنة (لا في فلسطين وحسب، بل وفي العالم العربي، أيضاً)، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي.
من الواضح، للأسف، أن المحاولات المعنية قد نجحت، وبأثمان مروّعة. ولسنا، هنا، في معرض الكلام عن كيف أفلت جني الأصوليات الوهابية والإخوانية من القمقم، ولماذا انقلب السحر على الساحر في حالات كثيرة. فكل ما في الأمر أن الإسلام السياسي كبديل للهوية الوطنية الفلسطينية، أو كقلب تمثل هي قشرته الخارجية، يصطدم مع خصوصيات فلسطين التاريخية، والديمغرافية، والحضارية، وشروط الصراع فيها وعليها، من ناحية، ويتناقض مع الاتجاه العام، والتحوّلات السياسة والأيديولوجية في الإقليم والعالم، من ناحية ثانية. وفي الأمرين، كما لا يخفى على اللبيب، ما يودي بالفلسطينيين، شعباً وقضية، إلى التهلكة.
سنتكلّم في معالجة لاحقة، وربما أكثر، عن خصوصيات لفلسطين ينبغي أن تفرض نفسها على كل مشروع محتمل للتحرر الوطني. لذا، نكتفي، هنا، بما يصلح خطوطاً عريضة للاتجاه العام، والتحوّلات، في الإقليم والعالم، وكلها معادية للإسلام السياسي:
فبعد استثمار المليارات، وتجنيد موارد دول، وأجهزة مخابرات، وشبكات مالية ومصرفية وتجارية، وشركات علاقات عامة، وما لا يحصى من الجمعيات والجماعات، على مدار أربعة عقود، في تعميم وتعويم الإسلام السياسي، يتنصّل منه الآن كبار الرعاة والممولين، إما بالانقلاب عليه، أو الابتعاد مسافة محسوبة عنه، أو العمل كوسيط «للخير» بينه وبين الأميركيين والإسرائيليين. بدأت هذه العملية بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، وتسارعت بشكل ملحوظ بعد صعود الدواعش. لم ينقلب هؤلاء نتيجة قناعات أيديولوجية، بل لأن النار اقتربت منهم، ولأن الأميركيين أرفقوا الغضب بالتهديد.
والأهم، ربما من هذا كله، أن الشعبويات والقوميات الدينية (الهند، مثلاً) والبيضاء الصاعدة في مناطق مختلفة من العالم، وفي أوروبا على نحو خاص، تكن عداء حقيقياً لعالم «الإسلام» و»المسلمين» بالمعنى الأيديولوجي، خاصة بعد صعود وتوحّش الموجة الداعشية. وهذه كلها مدينة بوجودها، في جانب منه على الأقل، لظاهرة الإسلام السياسي، وللاستثمار في مشاعر الخوف والبغض التي أثارتها الهجمات الإرهابية الانتحارية في مناطق مختلفة من العالم.
وعلاوة عليه، وللمرّة الأولى، على الأرجح، في تاريخ الإسلام، ثمة تجليات متنوعة ومتعددة الطبقات لمشاريع نقدية، تعتمد مناهج حديثة في علوم مختلفة، وتسعى لتقويض السرديات التقليدية لتاريخ وحضارة «الإسلام» و»المسلمين»، كما استقرت على مدار قرون مضت.
والأرجح أن هذا ناجم عن تضافر عوامل مختلفة تتمثل في تقلّص مساحة استثمار الأميركيين في الحقل الديني بعد نهاية الحرب الباردة، وعودة الضغائن والمناكفات الدينية مع صعود الأصوليات في الشرق والغرب بروحية القرون الوسطى، وتقنيات القرن الواحد والعشرين، وثورة الاتصال وتكنولوجيا ومنصّات التواصل الاجتماعي، التي وفّرت للمرة الأولى، في تاريخ البشرية، تفاعلاً غير مسبوق للأفكار على منصات عابرة للحدود، ومن خلال جماعات افتراضية، وحوّلت ما لا يحصى من بني البشر إلى جنود ومتطوعين ودعاة في حروب يختارونها، ويختارون أدوارهم فيها، ويخوضونها في البيت، من وراء لوحة المفاتيح. وهذا كله غير مسبوق.
ليس المطلوب من محرر يديعوت أن يكون مطلعاً على هذا كله، يكفي أنه يعرف اتجاه الريح في الإقليم والعالم، ولا يحب الخير للفلسطينيين، ولا يحتاج، إذا أراد تسديد ضربة قوية تحت الحزام، إلى أكثر من سبع رايات، وراية يتيمة واحدة.