العادي في تجلياته البطولية
نشر بتاريخ: 2022-04-25 الساعة: 14:03كلمة الحياة الجديدة
لم يكن الحاج عارف التوتنجي ليعرف أن صورته في باحة الأقصى، وهو جالس بحاله البيضاء، ثوبا، ولحية، وابتسامة، على كرسي بسيط، واضعا ساقا على ساق، غير آبه بجنود الاحتلال الاسرائيلي المدججين بالأسلحة، الذين كانوا يلاحقون المرابطين في باحة المسجد المقدس، لم يكن ليعرف هذا الشيخ الجليل أن صورته هذه، التي انتشرت كالنار في الهشيم في وسائط التواصل الاجتماعي، ستشكل تعريفا جديدا للبطولة، إذ هي مع جلسته البسيطة هذه، رباطة الجأش، بأم عينيها، وبلحمها، ودمها، شاخصة في مواجهة الخطر الجسيم، إنه اتزان الروح الوطنية، وصلابتها، وقد عبرت عن حالها بابتسامة الواثق، بحتمية انتصارها، بحكم أنها ابتسامة الإرادة الفلسطينية الحرة، بقرارها الحاسم على الصمود، والتحدي، والمواجهة، ولعلها المرة الأولى التي تكون الابتسامة فيها، بهذا المشهد، سمة من سمات البطولة، وعلامة من علاماتها، ودلالة من دلالات حقيقتها.
للابتسامة إذن، بالغة الهدوء والثقة، التي ارتسمت على وجه الحاج عارف التوتنجي، مقام جديد في عالم المعرفة الإنسانية، وثقافة المقاومة، هذه الثقافة التي أثراها اليوم الحاج التوتنجي في جلسته العادية البسيطة، وسط الاحتشاد المسلح للمحتل، في باحة المسجد الأقصى، والحق إنه لأمر في غاية الدهشة أن يحقق العادي بطولة من هذا النوع الاستثنائي، غير أن هذا هو شأن الطبيعة الفلسطينية، وقد عزز حقيقتها، شيخ آخر كان مستلقيا على أرض باحة المسجد، وهو يصور ما يفعله جنود الاحتلال ضد المرابطين في الأقصى، بعد أن تعرض للضرب المبرح على أيدي الجنود الآثمة ..!!
صور البطولة الفلسطينية في القدس، وباحاتها المقدسة، يصعب حصرها في الواقع، وأينما تمر في شوارع القدس، ودروب حاراتها، سترى آيات هذه البطولة، في وجوه أهل المدينة، وفي شارات النصر التي ما أن يرى طفل من أطفالها عدسة تلفزيونية، حتى يرفعها بوجه هذه العدسة، وستراها أيضا في حجارة المدينة المقدسة، وفي أسوارها، وفي عطر مساجدها، وكنائسها، وأصواتها التي تدعو للصلاة، والتصدي.
صور لا تلتقطها فضائيات الجماعات الاسلاموية، والاخونجية، التي تهرب منها إلى غوغائيات الاستعراضات اللغوية، وخطابات الادعاءات الانتهازية، وحوارات المخاتلات النظرية، التي تتجاهل بالقصدية الحزبية والسياسية المأفونة ذاتها، الفعل الوطني الفلسطيني، بشعبيته الفائقة، في باحات الأقصى، وتضحياته الجسيمة، وشهدائه البررة في مختلف مواقع المواجهة والتحدي على امتداد الضفة الفلسطينية المحتلة ..!!!
غير ان أصحاب هذا التجاهل المريض أدركوا عبث هذا التجاهل، وفشله في تحقيق ما يريدون، فعادوا مرة اخرى إلى صواريخهم المجهولة (…!!!) و إلى إطلاق النار الجبان، على مقرات قوات الأمن الوطني كما حدث في جنين قبل أيام، لصرف الأنظار عن المعركة الحقيقية التي يخوض شعبنا في القدس، وفي مختلف مواقع المقاومة الشعبية وهذا ما جعل رئيس حكومة الاستيطان والتطرف والعنصرية الاسرائيلية "نفتالي بينيت" يقول في محادثته مع الأمين العام للامم المتحدة "انطونيو غوتيريش" وهو يعرب عن خيبة أمله إزاء عدم إدانة الأمم المتحدة لاطلاق الصواريخ على اسرائيل (…!!!) "إن اسرائيل هي القوة التي تفرض الاستقرار، وإذا لم نقم بفرض النظام، فلن يتمكن عشرات الآلاف من المسلمين من الصلاة (..!!)".
الصواريخ العبثية التي باتت عديمة الحسب والنسب، والفلتان الأمني الذي يسعى اليه إطلاق النار الجبان على مقرات قوات الأمن الوطني، هو كل ما يريد "بينيت" لفرض النظام الذي يريد على القدس والأقصى، لا لجعل الصلاة ممكنة طبعا لآلاف المسلمين في مسجدهم، وإنما ليمهد الطريق بذلك أمام جماعاته اليمينية العنصرية المتطرفة، لهدم المسجد المقدس، وإقامة الهيكل الثالث المزعوم مكانه، حتى وهذا العمل يخالف رأي العديد من حاخامات التيارات اليهودية المركزية..!!!
ويبقى أن نقول وليس من باب المجاز والكناية، ولا من باب التجليات الشاعرية، إن صواريخ العبث الهجينة حاولت من بين ما تريد، من حرف للأنظار، قصف مشهد الحاج عارف التوتنجي لعلها تحظى بمشهد مغاير، غير أن العادي بتجلياته البطولية يظل عصيا على التغييب والاقصاء، وقد بات في التاريخ سمة أخرى من سمات الطبيعة الفلسطينية.
رئيس التحرير
mat