ثمن الاحتلال
نشر بتاريخ: 2022-04-14 الساعة: 13:08
سنية الحسيني
معادلة الصراع في فلسطين اليوم باتت واضحة، لا احتلال دون ثمن. ليست معادلة جديدة، فلم يتوقف الفلسطينيون يوماً عن مقاومة محتلهم دون كلل أو ملل، وليست بمعادلة غريبة، فجميع تجارب التحرر حسمت فيها معادلة الصراع بانتصار المقاومة. وما تعانيه إسرائيل اليوم وتصفه بـ «الإرهاب» هرباً من مواجهة واقع صنعته بيدها، ما هو إلا مقاومة الفلسطينيين لاحتلالها الممتد والأطول لأراضيهم، عاشه الجد والأب والابن، دون أن يتغير إيمانهم أو مفاهيمهم أو معاييرهم لتحقيق الحرية. الجديد اليوم يتمحور حول عجز إسرائيل ومنظومتها الأمنية عن فهم التحولات والتبدلات التي تشكل الواقع الجديد للمقاومة الفلسطينية، إذ بات إعلانها عن استراتيجيات أو أدوات أمنية جديدة لقمع الفلسطينيين يثير تهكمهم لرتابتها وتكرار نفسها.
أول مظاهر التغيير في واقع المقاومة الفلسطينية، أنها باتت طريق الفلسطينيين الوحيد لنيل حريتهم، بعد أن انكشفت نوايا الاحتلال تجاههم وتجاه أرضهم بشكل جلي وصاخب ومدوي. فاتفاق السلام مع الفلسطينيين، اتضح، وبعد ثلاثة عقود، أنه لم يأت أبداً لبناء الدولة الفلسطينية، وإنما لتدجين الفلسطينيين وتثبيت واقع متدرج قائم على نهب أرضهم وتسكين المستوطنين اليهود فيها، وحشر الفلسطينيين في كانتونات تخضع للحصار، وتطويقهم من قبل هؤلاء المستوطنين وجيش الاحتلال، وإخضاعهم للمراقبة والمتابعة والملاحقة المستمرة من قبل المنظومة الأمنية لدولة الاحتلال، وضمان تبعيتهم الاقتصادية. ولم يخرج انسحاب الاحتلال من غزة عن خطة جهنمية لعزل القطاع عن باقي محيطه الفلسطيني وتدمير بنيته التحتية ومعاقبة أهله، واستخدام انقسامه سياسياً كمبرر لتعطيل أي حل سياسي مع الفلسطينيين أمام العالم. وفي أراضي ١٩٤٨، لم تستطع إسرائيل أن تخفي وجهها المتحيز القبيح ضد كل ما هو فلسطيني، فصادرت أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم، وطمست أي معلم من معالم تاريخهم، وتتعامل مع الفلسطيني معاملة مواطن من درجة دنيا في جميع مظاهر الحياة الأساسية، ومؤخراً وبشكل فج قررت طرد بدو النقب من ديارهم التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، لتبني مستوطنات أو أحياءً يهودية مكانها، في سياسة مكررة تهدف لإلغاء الوجود الفلسطيني ومظاهره.
خلال الأسبوعين الماضيين فقط، شهدت إسرائيل أربع هجمات متعاقبة لكنها منفصلة عن بعضها البعض، في بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب، يربطها المكان والمستهدفون والمنفذون. قتل في تلك الهجمات أربعة عشر إسرائيلياً، وأثارت الرعب في قلوب الإسرائيليين في عقر «دارهم». حمل المهاجمون الفلسطينيون في العمليتين الأولى والثانية الهوية الإسرائيلية، بينما جاء المهاجمون في العملية الثالثة والرابعة من الضفة الغربية. ويعد ذلك تطوراً جديداً لحق بجهة قدوم المهاجمين، اذ إنهم ليسوا من القدس أو من الضفة الغربية أو من غزة، وإنما من حمَلة الهوية الإسرائيلية. رسخت حرب غزة الأخيرة هذا التوجه في شهر أيار من العام الماضي، أثناء هبة الأقصى، رغم أن ذلك التوجه ليس جديداً، فطالما كان الفلسطينيون في إسرائيل امتداداً لأصلهم الفلسطيني والذي لم ينفصلوا عنه يوماً، وتشهد العديد من الأحداث الماضية على ذلك، لكنه بات الآن واضحاً دون مواربة. انقلبت مخططات إسرائيل ضد الفلسطينيين عليها في العديد من المظاهر. استخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة نشر الجريمة والسلاح والمخدرات في المجتمعات الفلسطينية في أراضي عام ١٩٤٨ لإضعاف الفلسطينيين وتشتيت طاقاتهم وتدمير البنية الفلسطينية عموماً فيها، والذي يفسر جرائم القتل المتكررة الملفتة للانتباه في المجتمع الفلسطيني في تلك الاراضي، الا أن فوضى السلاح التي تعم المجتمع الفلسطيني في إسرائيل بات في الإمكان أن تستخدم ضدها، كما حدث في عمليتي بئر السبع والخضيرة.
وانقلبت مخططات إسرائيل ضد الفلسطينيين عليها في مظهر آخر، عندما قامت إسرائيل بتبني سياسات لتشتيت الفلسطينيين وتقطيع أوصالهم، بهدف إضعافهم. قامت إسرائيل بعزل غزة عن محيطها الفلسطيني من خلال سياسة الحصار، وفصل القدس عن الضفة الغربية من خلال بناء جدار الفصل العنصري ووضع معابر عسكرية لتقييد حركة الفلسطينيين وعدم السماح لهم بالمرور عبرها الا من خلال تصاريح تصدرها قوات الاحتلال، وفصلت كذلك الفلسطينيين في أراضي الـ ٤٨ نفسياً عن امتدادهم الفلسطيني. ساهمت تلك السياسة الإسرائيلية بقضيتين، الأولى اعتماد كل منطقة من تلك المناطق على نفسها في ابتكار أدوات المقاومة الخاصة بها والمتناسبة مع ظروفها، الأمر الذي خلق نوعاً من التنوع في أدوات المقاومة الفلسطينية، وساهمت القضية الثانية في تعدد مصادر المقاومة، فباتت إسرائيل تخشى انفجار المقاومة من الجبهات المتعددة التي خلقتها، من غزة ومن أراضي الـ ٤٨ ومن القدس ومن الضفة الغربية ومن لبنان وسورية أيضاً، وباتت السيطرة على جميع الجبهات بالنسبة لإسرائيل أكثر تعقيداً وصعوبة.
ومن مظاهر المقاومة الحالية، والتي تطورت لتتأقلم مع استراتيجيات وممارسات الاحتلال وانقلبت ضده، لم تعد التنظيمات الفلسطينية الموجه والمنظم الأول كما كانت في الماضي، فبات الاحتلال يطلق على هذا النوع من عمليات المقاومة «عمليات فردية»، أي تأتي بمبادرة شخصية، دون وجود انتماء سياسي للمقاوم، الا انتماءه لوطنه. وتوصل الفلسطينيون تلقائياً لهذا النوع من العمل، بعد تصيد الاحتلال لقادة المقاومة من الفصائل بالاغتيال أو الاعتقال، ومتابعتهم بأساليب التجسس المختلفة، وتحجيم أدائهم وعملهم خصوصاً في الضفة الغربية، مع استمرار الاحتلال بكافة مظاهره المستفزة. فبات قرار المقاومة قراراً فردياً، الأمر الذي يبعد الشبهات والشكوك حول المقاومين من هذا النوع، وصعوبة التنبؤ بعمليات المقاومة أو معرفة مصدرها قبل حدوثها. وعبر الجهاز الأمني الإسرائيلي عن ذلك صراحة، عندما أكد انه ليس هناك ما يمنع من تكرار مثل هذه العمليات الأخيرة في إسرائيل، دون القدرة على التنبؤ بها قبل حدوثها، كما يحدث تماماً خلال عمليات الطعن أو الهجمات بالسيارات أو الدراجات النارية ضد قوات الاحتلال أو المستوطنين في الضفة الغربية حالياً.
لم تنته فترة الربع الأول من العام الجاري بعد، سقط خلالها أكثر من ٣٠ شهيداً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في زيادة ملحوظة في عدد الشهداء، والتي لم تصل حد هذا العدد في نفس الفترة خلال السنوات الثلاث الماضية. كما قامت قوات الاحتلال باعتقال أكثر من ١١٠٠ فلسطيني في ذات الفترة، في حين اعتقلت تلك القوات حوالي ٢٢٠٠ فلسطيني في العام الماضي كله. وكانت نفتالي بينيت قد طالب جميع الإسرائيليين، بعد موجة العمليات الأخيرة، بحمل السلاح، لمواجهة أي هجوم من قبل الفلسطينيين، كما اعتبر أنه ليس هناك خطوط حمراء لإعادة السيطرة على الوضع الأمني. يأتي ذلك في ظل حملة عسكرية وأمنية مكثفة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية عموماً وضد جنين ومحيطها خصوصاً، والتي جاء منها منفذو العمليتين الأخيرتين في إسرائيل. ويبدو أن حرارة الأوضاع ترتفع باتجاه الغليان في ظل شهر رمضان، وتصريحات اليهود المتطرفين عن نيتهم اقتحام المسجد الأقصى، وخلال عيد الفصح اليهودي، وتحذيرات الأوساط الأمنية الإسرائيلية بإمكانية دخول جبهات مقاومة فلسطينية إضافية في حال تفاقمت الأمور في الضفة الغربية.
إنه الثمن الطبيعي الذي يجب أن يدفعه الاحتلال، اذ ليس أمام إسرائيل للتعامل مع الفلسطينيين الا طريق واحد معروف بالانسحاب من أراضيهم، فالقمع والبطش والقتل والاعتقال كلها أدوات لم تعد تؤتي أكلها، ولا تخيف الفلسطينيين، كما أن الالتفاف والبحث عن حلول تفرض على الفلسطينيين من الخارج من خلال الحصار أو العقوبات الاقتصادية والمالية أو اتفاقيات التطبيع مع دول عربية، أثبتت جميعها أنها حلول عبثية ومضيعة للوقت. ودرس أخير لإسرائيل، إذ ليس من السهل تقسيم شعب ذي تركيبة طبيعية أصيلة، كالشعب الفلسطيني، فتقطيع أوصاله بالقوة لن يولد خلال الأزمات إلا تكامله وتضاعف قدراته. وليس بالإمكان تجاهل حالة الانقسام التي تعيشها إسرائيل، ما بين كونها قوة احتلال من ناحية وما بين انقسام مركّباتها البشرية، ما بين القومية الفلسطينية المسلمة والمسيحية وما بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين من ناحية أخرى، وما بين اليهود المتدينين والعلمانيين منهم من ناحية ثالثة، الأمر الذي يفسر حالة التخبط التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي، والذي يترجم بعدم استقرار الحكومات فيها، وسيطرة حالة من الهلع الأمني والتطرف الفكري.