الرئيسة/  مقالات وتحليلات

رواية العمى

نشر بتاريخ: 2022-03-01 الساعة: 14:20

 

عمر حلمي الغول


أتيح لي أن أقرأ في الأيام الأخيرة من شهر شباط/ فبراير الماضي رواية "العمى" للروائي البرتغالي المبدع، جوزيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للأدب، وهي تقع في 320 صفحة من القطع المتوسط، وترجمة محمد حبيب، وصادرة عن مكتبة نوبل عام 1998. ورغم أن الروائي لا يترك للقارئ متنفسا لالتقاط الأنفاس في قراءة روايته؛ لأنه لم يلجأ للعناوين التفصيلية، ولم يجزئ الرواية لأقسام، وإنما يأخذ القارئ في سردية لامتناهية في عوالم الرواية المشوقة، إلا أن عبقرية النص، وتواصل زخم الأحداث وحيويتها، والاستحواذ على المتلقي يغريك بالبقاء في دائرة الإثارة البديع.

أبطال الرواية جميعهم بدءاً من طبيب العيون وزوجته والممرضة وسائق التاكسي والمريض الأول المصاب بالعمى وزوجته والطفل الأحول ووالدته والفتاة صاحبة النظارات السوداء ومضاجعيها، إلى إداريي الفندق والجرسون، إلى الرجل الكهل معصوب العين.. إلخ. لم يحمل أي منهم اسماً، حتى كلبهم، الذي رافق زوجة الدكتور بعد خروجهم من الحجز داخل أسوار قسم من مستشفى الأمراض العقلية لم يحمل اسما. ومع ذلك، يبقيك ساراماغو متتبعا التراجيديا السوداء التي اقتحمت المدينة أو الدولة بمرض طارئ سماه "بياض العمى".

وهنا الروائي لم يطلق اسماً أيضاً على المدينة، أو على الدولة، وكأنه أراد أن يشي للمتلقي، بأن ظاهرة العمى الأبيض، يمكن أن تحدث في مطلق مدينة بغض النظر عن اسمها وهوية دولتها، ومركزها الحضاري، حتى يوحي لك بأن العمى قد يصيبك أسوة بأبطاله، الذين تفشى بينهم العمى حتى طال كل سكانها دون استثناء بما في ذلك الأطباء والممرضون والجيش والشرطة والوزارات والمؤسسات والتجار وأصحاب المهن.. وكل مقيم في المدينة إلا امرأة واحدة بقيت ترى وتقص على زوجها وشركائه من العميان سيرورة الأحداث، وهي زوجة الطبيب، ولم يحاول أن يعطي سبباً لذلك، ولم يتح أو يسمح للطبيب نفسه، وهو المختص بأمراض العيون أن يجتهد أو يقدم قراءته لهذا الاستثناء.

وخلق الروائي بخياله الخصب عالماً أو مملكة لفاقدي النظر أو العميان في القسم الخاص من مستشفى الأمراض العقلية، الذين وصل عددهم لحوالي 300 إنسان من النساء والرجال والأطفال، وزعوا على غرف القسم، وكان يأتيهم الطعام من قبل الجنود المكلفين بأعمال الحراسة لمنع المكفوفين من الخروج أو الاقتراب من أحد بما في ذلك الجنود والرقباء والضباط، لأن المرض معدٍ، ونتاج الرعب والخوف من العمى اضطروا لإطلاق الرصاص على العديد من النزلاء، وأردوهم قتلى، وطلبوا من المصابين بالعمى دفن أمواتهم، وأمنوا لهم رفشاً وأدوات الحفر.

كان الوضع في قسم الأمراض العقلية الذي خصص للمصابين بالعمى مزريا حتى الثمالة، لا ماء نظيف، والحمامات نتاج العمى العام باتت موبوءة بالروائح الكريهة، والغائط يزكم الأنوف، لأنه منتشر في الغرف وعلى الأسرة وفي الممرات، ووضع قاتم أضاف للعمى عمى آخر أكثر بؤساً ولعنة، وزاد من ظلامية المكان. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن عالم العميان شهد انتشاراً للبلطجة مع قيام مجموعة من العميان معهم مسدس وعصي بفرض الخاوة على مرضى الغرف الأخرى من خلال سيطرتهم على كراتين الأطعمة التي تصل للجميع، وأعلنوا بياناً واضحاً كل غرفة تريد الحصول على الأكل مطلوب من نزلائها: أولا جمع كل ما لديهم من أموال وذهب وساعات ومقتنيات ثمينة؛ ثم أضافوا أمراً أكثر دونية عندما طلبوا من النساء في كل غرفة أن يتوجهن لغرفتهم لمضاجعتهن مقابل بعض فتات الأكل، الأمر الذي دفع بعضهن لاحقاً لارتكاب جرائم قتل ضد زعيم العصابة ورفاقه، وقادت العملية زوجة الطبيب من خلال المقص، الذي وجدته في حقيبة يدها بالصدفة، ثم حصل لاحقا التمرد العام من قبل نزلاء الغرف على من تبقى من قطاع الطرق.

وبالصدفة المحضة بعد الانتهاء من تلك العصابة، اكتشفت زوجة الطبيب عندما ذهبت للحصول على الأكل عدم وجود حراس، لأنهم باتوا جميعاً عميانا، ولم يبق هناك أي حارس، وعمموا الخبر فخرجت الغالبية في أسمالها وبؤسها تدور في الشوارع بحثا عن الطعام، فوجدوا أن كل سكان المدينة هائمون على وجوههم منتشرين في الشوارع والأزقة كل مجموعة منهم تبحث عن الأكل والماء، والمحال والأسواق التجارية مفتوحة ومنهوبة من قبل مجموعات العميان، فباتت المدينة وشوارعها بمثابة منطقة آسنة مليئة بالغائط، والموتى على الطرقات، والكلاب الضالة تنهش جثثهم، والروائح الكريهة والعفن والرطوبة أضفى على المشهد واقعا خرافيا من التراجيديا العمياء، حتى البيوت تم اقتحامها من قبل آخرين والسكن فيها بحثا عن الطعام، وعرض نموذج العجوز العمياء، جارة الفتاة صاحبة النظارة السوداء، وكيف سيطرت على بيت أهلها، وكانت تأكل الأرانب والدجاج نيئا لتبقى على قيد الحياة، والتي عندما شعرت أن حياتها اقتربت من النهاية خرجت للشارع وهي تحمل مفتاح شقة صاحبة النظارة، لعلها تعود وتجد مفتاح شقتها، وكانت جثتها مأدبة للكلاب، التي التهمت نصف جسدها الضعيف والبائس، ومع ذلك قامت زوجة الطبيب بدفنها في حديقة بيت الفتاة.

وقدم لنا ساراماغو نموذج الكاتب الذي احتل بيت المصاب بالعمى أولاً، وكيف كان يكتب مدوناته عن تجربة العمى، وعندما علم أن زوجة الطبيب ترى طالبها بأن تصف له واقع الحجز في قسم مستشفى المجانين. ثم عرض عودة الطبيب وزوجته ومعهم المجموعة الأساسية المكونة من سبعة أشخاص: المصاب بالعمى أولا وزوجته والفتاة صاحبة النظارة السوداء والطفل الأحول والكهل إلى بيتهم، وكيف صور لحظة هطول المطر واستغلال النساء الثلاث للأمر بالاستحمام بماء المطر عاريات، وتلصص الكهل عليهن مع أنه لا يراهن.

ومن المشاهد الهامة في القسم الأخير من الرواية، كيف أمسى مجتمع العميان له منابر للمفوهين ورجال الدين، الذين باتوا يتحدثون لجماهيرهم عن التقوى والإيمان وآخر الزمان، وكان المستمعون تشرئب عيونهم نحو الخطباء، وكأنهم يرونهم، ثم لجوء زوجة الطبيب وزوجها والأعمى الأول وزوجته إلى الكنيسة، وكيف شاهدت صاحبة العيون الوحيدة الصور الموجودة في الكنيسة بلا عيون، أو بعيون مغطاة بالأبيض، وكأن القس خادم الكنيسة أراد أن يعمي صور القديسين حتى لا ترى أسوة بأهل المدينة.

وبالنهاية، وفي إحدى الليالي أثناء قراءة زوجة الطبيب لهم من إحدى الروايات فجأة، صرخ المصاب الأول بالعمى أنه بات يرى سواداً في عينيه، وزال العمى الأبيض، ولكنه تدريجيا صرخ ثانية بدأت أرى، ثم تلاه الآخرون تدريجيا، وهكذا استعاد سكان المدينة نظرهم.

أعتقد أن رواية "العمى" ذات قيمة أدبية فنية عظيمة، فيها خصب خيال هائل، وأعتقد أنه تحدث عن ظاهرة يمكن الافتراض أن تصيب مجتمعا ما أسوة بوباء "كوفيد- 19" أو غيره من الأوبئة، وتتعطل دورة الحياة في المجتمع، وتتوقف عملية التطور، ويعود الناس القهقرى إلى مربعات الزمن الأول. ومع ذلك تمكن الإنسان من التعامل مع مفرادت وظواهر اللحظة القاتمة، رغم كل التعقيدات، والخسائر البشرية في الأرواح، ونشوء ظواهر اجتماعية لم يألفوها فيما مضى من حياتهم، والتعايش معها، والتغلب عليها وفق معاييرهم الجديدة. وبراعة الأديب ساراماغو أنه ترك زوجة الطبيب بعيونها لتروي حبكات ومشاهد الرواية، والرابط الناظم بين البداية والنهاية التراجيدية. صنع عالما خرافيا غير مألوف بعبقريته.

شكراً للصديق محمود أبو الهيجاء، الذي نصحني بقراءتها، وهو الذي أمدني بها.

[email protected]

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024