عن العنف المجتمعي
نشر بتاريخ: 2021-12-06 الساعة: 14:49
عاطف أبو سيف
أثارت قضية الطعن حتى الموت، التي حدثت في الجامعة في جنين، استياءً كبيراً وأثارت مخاوف أكبر وقلقاً حول مستوى ما وصل إليه العنف في المجتمع. فقيام طالب بطعن آخر في حرم الجامعة، ومشاركة عدد آخر من الطلاب أو المواطنين بذلك، يعكسان مستوى ما وصل إليه العنف ومقدرة هذا العنف على جر المجتمع إلى درك منحط من القيم والمثل المفقودة. والثابت أن أي قضية تكون عادة نتيجة تراكمات سبقتها أو إشارة إلى مدى الذروة التي وصلت إليها الأمور في جانبها. لا يمكن لبشر أن يشاهد الموقف ويشعر بأي راحة ولا استقرار. ثمة تطاول غير إنساني على الحياة وعلى قداستها. وربما أهم من ذلك استخفاف بما يمكن أن تكون عليه العواقب.
ما جري في الجامعة في جنين يثير في الحقيقة موضوعين: الأول العنف في المجتمع، والثاني واقع الجامعات وحقيقة الحركة الطلابية المعاصرة. وهما موضوعان يستحقان التأمل والبحث من أجل الوقوف على واقعهما. فالقصة ليست مجرد حادثة طعن ولا هي شجار تم واشتعل الغضب واستعر في النفس فصار ما صار بوصفه ردة فعل، بل هو فعل دبر بليل، وتم ترتيبه والتخطيط له. إننا نتحدث عن شكل ما من الجريمة المنظمة التي إن تركت ستكون درباً في الحياة وجزءاً من واقعنا الذي نعيشه. وهي جريمة إضافة لذلك تمت أمام حرم الجامعة وأمام الطلاب والكاميرات. إنها تعكس ليس استخفافاً بالجامعة فقط، بل بأمن المجتمع. فهي ليست مجرد جريمة ضد فرد، بل هي جريمة ضد مجتمع بأكمله. وما لم يتم التعامل مع الأمر بهذا الوصف، فإننا سندع الكارثة تمر باعتبارها مجرد خطأ آخر. القصة ليست قصة قتل فقط، بل هي جريمة مضاعفة ومركبة. إن التعامل معها على هذا الأساس يجب أن يخرجها من دائرة الصراع والاقتتال العائلي الذي للأسف تبيح الترتيبات القانونية حله عشائرياً. ما حدث يجب أن يظل صدمة تشعرنا بالدوار والاختلال وعدم التوازن كلما فكرنا بطبيعة مجتمعنا وما نتطلع إليه، لأن الاستخفاف بقيم المجتمع وأمنه إلى هذا الحد أمر لا يمكن السكوت عنه.
الأسبوع كله كان مليئاً بالكثير من الأسى والألم. ففقد شابين في حادث طرق غرب رام الله أيضاً شيء مؤلم، كما منظر الشاب في القدس وجنود الاحتلال يطلقون عليه النار بدم بارد وهو ممدد على الأرض أيضاً أثار الكثير من الغضب والأسى، في جريمة تحدث بشكل متكرر على يد جنود الاحتلال القتلة، لكن المنظر ذاته بهذا الاستخفاف بالروح والاستهتار بالقوانين الدولية التي تحرم القتل دون سبب، والتي تقيد حتى قتل الجنود في المعارك. كان المنظر مؤلماً وعكس مدى استخفاف الاحتلال بحياتنا. أسبوع ثقيل بتفاصيله وبمناظر الموت البشعة التي انتهى بها. لكن المؤكد لا شيء يضاهي الجريمة التي تمت أمام الجامعة في جنين.
العنف المجتمعي في تزايد. هذه حقيقة. وثمة أسباب كثيرة يمكن لها أن تفسر هذا التزايد. جزء من هذه الأسباب هو الأوضاع المعيشية ذاتها خاصة الاقتصادية وعدم الاستقرار، وجزء آخر العنف العام الذي نعيش في نطاقه والذي يسببه الاحتلال والحواجز ومداهمات الجيش والملاحقات وأشياء كثيرة. كل ذلك يولد نوعاً من العنف الذاتي المبطن الذي ينفجر في موجات خارجية ضمن العلاقات الاجتماعية الداخلية. وسبب ثالث ربما هو ما أشارت له الدراسات عن تزايد العنف الأسري خلال الحجْر المنزلي في ظل الجائحة. الكثير من البيانات أشارت إلى تصاعد العنف داخل الأسرة بسبب التواجد القهري المستمر والمتواصل لأفراد الأسرة في المنزل.
وعلاج ذلك بحاجة لخطة وطنية شاملة يساهم فيها المجتمع قبل المؤسسة الرسمية. وأساس كل ذلك السلم الأهلي الذي يجب أن يكون غاية يسعى إليها، والثقافة المجتمعية القائمة على المحبة وقيم التسامح والعطاء، بجانب التنشئة المدرسية والخطابات الثقافية الموجهة للجمهور والرسائل الإعلامية الهادفة. بمراجعة كل المركبات المشاركة في تلك المخرجات يمكن للمجتمع أن يقدم لنا حلولاً خلاقة تساهم بشكل جذري في التخفيف من هذا العنف وفي جعل المجتمع أكثر مسالمة. القصة ليست مجرد حوادث قتل أو شجارات في الحارة أو بين القرى، أو تصاعد خطاب العدوانية المجتمعية والعداء السياسي والكراهية الحزبية فقط، بل قصة مجتمع يتفكك وتتساقط كل مكوناته فرادى دون أن تشعر من أجل أن يحصل ما يتطلع له الاحتلال من الفوضى التي يكون وهو وأجهزته هم الشيء المنظم الوحيد فيها.
القضية الأخرى التي أثارتها الجريمة في جنين هو الحركة الطلابية الراهنة. لا بد أن الجميع بات يدرك أن ثمة تراجعاً واضحاً في دور الحركة الطلابية وموقعها في الفعل الوطني الفلسطيني. اختلف الوقت واختلفت المهمة. ليس أن طلابنا لم يعودوا مثل سابقيهم في السبعينيات والثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، بل حقيقة أن المهمة التي كانت تناط بالحركة الطلابية لم تعد كما هي الآن. على هذه الصفحة قبل خمس سنوات ربما جادلت حول مكانة الاتحادات وتبدلها عن السابق، الأمر ذاته ينسحب على الحركة الطلابية. لم يعد ثمة شيء اسمه اتحاد الطلاب الفلسطينيين. هل تذكرون الاتحاد الذي كان يترأسه ياسر عرفات؟ الزمن غير الزمن. حتى الجامعات اختلفت ولم تعد هي ذات الجامعات. ولكن مع هذا ثمة تراجع غير مقبول في أداء الحركة الطلابية التي بدلاً من أن تكون رافعة للحراك الوطني، صارت تنقل آفات المجتمع للحرم الجامعي وتساهم في "تعطيب" هذا المجتمع بصورة أكبر.
أظن أننا بحاجة لمراجعة واقع الحركة الطلابية حتى نسعف ما يمكن إسعافه وتصويب الأخطاء القاتلة في مسيرتها، لأننا دون حركة طلابية فاعلة لا يمكن لنا أن نبني جامعات حقيقية. ودون تلك الجامعات لا يوجد مجتمع معرفة ومجتمع قيم.