إنهم ينتظرون..!
نشر بتاريخ: 2021-11-17 الساعة: 13:27
حسن حميد
قلّةٌ قليلة، هم الذين يعرفون أن ستالين (1878-1953) هو أحد أهم شعراء الجنوب السوفييتي (جورجيا)، وأنه هو الذي عفا عن الشاعر الروسي المعروف بوريس باسترناك (1890-1960) عندما ورد اسمه في قائمة الـ (44413) المتهمين بمعارضة النظام الاشتراكي،لأن أصواتهم المبحوحة بكلامهم الغليظ ما زالت مسموعةً. وقد عفا ستالين عن باسترناك لأنه ترجم قصائد لشعراء من جورجيا، هم رصفاء ستالين، وقد أحبّهم، ويومذاك قال ستالين: دعوا هذا الشاعر يلاعب الغيوم، فرُفع اسمه من قائمة (المغضوب عليهم).
هذا الرجل ستالين، وفي وسط المداحمات الألمانية الشرسة التي أرادت احتلال مدينة بطرسبورغ في الحرب العالمية الثانية، خاطب الشعب السوفييتي قائلاً: هبوا أيها السوفييت العظام، بكلّ ما تملكون من قوة، ودافعوا عن بوشكين، وغوغول، ودوستويفسكي، وغوركي، وديرجافين..، أيّ لم يقل لهم هبوا ودافعوا عن بيوتكم، وأراضيكم، وسيادة بلادكم، بل قال لهم: هبّوا ودافعوا عن هؤلاء الأدباء الذين تكمن في حيواتهم ومدوناتهم الأدبية البيوتُ، والأراضي، واللغةُ، والعقيدةُ، والقيمُ النبيلةُ، والسيادةُ، وقد كان ذلك الخطاب مقدمة لحماسة سوفييتية صنعت المستحيل حين أنقذت عاصمة روسية القيصرية القديمة( بطرسبورغ) من البطش والوحشية والنازية الهتلرية، وكان إنقاذها مقدمة لانتصار السوفييت في الحرب العالمية الثانية والإجهاز على العقلية الدموية المنادية بقوة الحديد، لا بقوة العقل، وبقوة التدمير، لا بقوة العمران، وبقوة الأجساد لا بنورانية العقول.
أقول هذا، وأنا أرى بعض المثقفين والفنانين والمبدعين الفلسطينيين الذين لم تصل إليهم بعد يدٌ نديةٌ تُقدرُ ما أبدعوه وما أنجزوه من مدونات وتجارب شديدة الرّصانة، بهية الحضور، وهم على نيافة كبيرة في إبداعهم حين نرى قاماتهم تتبدى في مرايا العطاء الفني والأدبي، وأكثرهم،هم، من هؤلاء الذين آمنوا بقولة أهل الحكمة: اللهم لا تذقنا حلاوة أنفسنا، فهم،ورغم كلّ كريهة، غير متطلبين، وأصواتهم هامسة إلى حدّ الخفوت، وألسنتهم دافئة، لكن قلوبهم تهمي، مثل الغيوم البيض، لأن الأيام تمرّ بهم، وقد صاروا في خريف العمر، فلا يدٌ تباركهم، ولا صوت يعلو بالتحية، ولا يد ترفع شاكرة، وقد أمضوا العمر وهم يشربون القهوة المُرّة، مثلما يسمعون ويعون الأخبار المُرّة، هؤلاء حاضرون مثل نباتات البنفسج الخضراء الراهجة البّارقة بألوانها الزينة، هنا في البلاد، وهناك في المنافي، ولهؤلاء الذين هم هنا في البلاد، ولأولئك الذين هم في المنافي أبٌ واحد وأمّ واحدة هي فلسطين، لأن ما كتبوه، وما رسموه، وما جسّدوه.. دار حول فلسطين، دورة الطّيور السابحات في رحابة السماء بحثاً عن غدير، ولا غدير لنا سوى هذه البلاد التي عزّها الله بالمعنى، وأبدية البقاء، هل أذكر بعض الأسماء وهي كثيرة؟! وكلّها، وبسبب الحياء المعرفي، كدت أقول بسبب الحياء الوطني، واقفة وقفة شموخ في المربع الذي يجمعنا، ونُجمع عليه: بلادي، بلادي.
هنا في البلاد شعراء ورسّامون ومسرحيون وساردون في غزة، والضفة، وداخل أراضينا العزيزة..
الثابتون الراسخون، أرض راشد حسين، وأحمد حسين، ومحمود درويش، وتوفيق فياض، وشفيق حبيب، وشكيب جهشان، ومحمد نفّاع، ونبيه القاسم، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد.. يحتاجون إلى تلويحة يد فقط، ولتربيتة على كتف عالية، وهناك في المنافي شعراء ومسرحيون ورسّامون وساردون وأعلام مبدعون، ينتظرون ما ينتظره سياج التوت البرّي، كي يخفون عثراتهم، مثلما يريد سياج التوت البرّي أن يخفي بأوراقه الخضر النضر أشواكه الباديات!
نعم، نحن أهل العيون اليواقظ التي ترى ما يجب أن يُرى، كي يصير الكتاب الوطني أثقل في المعنى، وأجمل في الهيئة، وأبهى بسحره الحلال.. حين نرى الجميع يحيطون بهذه البلاد العزيزة، ويساهرون شمسها الآتية، لا ريب، مثلما تُساهر الطّيور.. جهجهة الضوء.
حسن حميد
[email protected]
mat