الأسير إسماعيل عودة.. بطولات من واقع الحرية والقيد
نشر بتاريخ: 2021-10-07 الساعة: 13:14
بقلم الأسير: حمادة درامنة
تزخر معتقلات و”سجون” الاحتلال بالكثير من القصص النضالية البطولية والإنسانية، ويكاد بعضها يماثل الحكايات الأسطورية، لأسرى أبطال وهبوا حياتهم لفلسطين. سأتحدث في هذه المقالة عن أحد الأسرى الأبطال الذي بدأ منذ أعوامه العشرين نضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي سبيل مجد الوطن، وحريته. إنها قصة عن الأسير البطل إسماعيل عارف عودة، وهي كذلك قصتي معه في الطفولة، وخلال لقائي به في الاعتقال مرتين.
في عصر الفاتح من كانون الثاني 1991، وفي ظل مرور أكثر من 3 سنوات على اندلاع الانتفاضة المجيدة الأولى، كنت قد بلغت من العمر 8 أعوام. لم أكن أعي قبل ذلك التاريخ من هم الملثمون، وما دورهم في حياتنا، سوى أنهم أشخاص صالحون يسعون لتحقيق أمور جيدة. بقي هذا الوعي راسخا في عقلي، حتى رأيتهم المرة الأولى في ذلك التاريخ، يجوبون في عرض منظّم شوارع قرية دير عمار ومخيمها، وقريتي جمّالا، وبيتللو، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لانطلاقة حركة فتح. كانوا ببزاتهم السوداء، ولثامهم الكوفية، أما أسلحتهم فهي الهراوات والبلطات.
كان عددهم 20 ملثماً يسيرون على طرفي الشارع، وفي وسطهم رجل يرتدي بزّة عسكرية، وملثم بالكوفية يرفع فوق رأسه لافتة كبيرة عليها شعار حركة فتح، وفي مقدمتهم رجل بدا لي أنه قائدهم. علمت وقتها من والدي أن هؤلاء الملثمين من صقور فتح، ويقاومون الاحتلال الإسرائيلي، ومنذ ذلك الوقت كنت دائماً أفكر وأتساءل من يكون ذلك القائد الذي كانت تسير خلفه هذه الأعداد، وقد أردت أن أكون معه.
بدأت قوات الاحتلال كعادتها خلال الانتفاضة الأولى، وفي كل فعالية نضالية فلسطينية، تلاحق كل من له صله بمثل هذه النشاطات، وكان من بين هؤلاء الأشخاص الذين اعتبرتهم قوات الاحتلال حينها من النشطاء المناضل “إسماعيل عارف عودة” ابن قرية دير عمار. كان ذلك المناضل الذي بلغ العشرين عاماً وقتها، هو نفسه القائد الذي سأراه عام 1991، وتسير خلفه أعداد الملثمين. بدا عودة منذ وقتها كأنه قد أنذر بالشقاء، وهي مرحلة أيضاً بدأت بها أبصر النور، كالكثير من أبناء قرية دير عمار والقرى المجاورة.
حارب عودة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل المتاحة له، حتى اعتقل المرة الأولى عام 1988. مكث عودة في الاعتقال 3 سنوات، وخرج بمزيد من الإصرار والثبات على مواصلة مسيرة نضالية، ومتمسكاً بوفائه لدماء الشهداء، وآهات الأسرى، ليكمل مسيرته التي باتت رمزاً للنضال والفداء في منطقته. انضم عودة مع دخول السلطة الوطنية الفلسطينية أرض الوطن عام 1994 إلى جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، كان من الأوائل الذين وهبوا أنفسهم دفاعاً عن فلسطين وشعبها وقضيتها العادلة. لقد سار عودة في ركب من دافع وقاتل من أجل كرامة هذا الشعب وحريته، ليقبض على زناد البندقية منتفضاً ضد هذا الاحتلال وجرائمه.
تعود بي الذاكرة إلى مشهد آخر للملثمين وصقور الفتح في إحدى ليالي عام 2001 الباردة، وذلك عندما وقفت مع بعض أهالي المنطقة لمشاهدة اشتباك دار بين عدد من المقاومين وجنود الاحتلال على أحد الشوارع الالتفافية القريبة من قرية دير عمار. أتذكر تلك الليلة الباردة وأنا أشاهد بصمت، والذعر يتملكني، وبدني ينتابه القشعريرة، وأطرافي متجمدة، بفعل حصار البرد الشديد. كانت القرية تبدو وقتها مهجورة من سكانها، إلا من عتمة احتلتها فجأة.
شاهدت هناك أمامي في الشارع الالتفافي البعيد شهباً من نار، يتبعها أزيز رصاص، وقنابل إنارة في السماء. شاهدت وقتها كذلك 4 أشخاص بملابس عسكرية، يسيرون نحو البلدة القديمة لقرية دير عمار، ويحمل كل واحد منهم على كتفه الصلب سلاح الكلاشينكوف. كان أحد هؤلاء المناضلين هو نفسه الرجل الملثم الذي رأيته قبل 10 سنوات، إسماعيل عودة ومعه رفيق دربة وزنزانته أسامة عودة.
بدأتْ بعدها مع إسماعيل وأسامة وباقي مجموعتهم رحلة مطاردة تنفذها ضدهم قوات الاحتلال ومخابراته. لم يكد يوجد بيت، أو مكان في قرية دير عمار إلا اقتحمته قوات الاحتلال، وفتشته، وبثت الرعب في نفوس سكانه بحثاً عن تلك المجموعة. اعتقل أسامة عودة عام 2001 في أحد الكمائن التي نصبها له جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد مطاردة طويلة. في عام 2002، اعتقل إسماعيل عودة مع باقي أفراد مجموعته، وحكمت محكمة الاحتلال العسكرية عليه 20 عاماً، وحكمت على أسامة عودة 26 عاماً.
لم يثن هذا الحكم الجائر الظالم إسماعيل عودة عن مواصلة مسيرته النضالية، فخلال فترة اعتقاله برز كأحد قيادات الحركة الأسيرة المشهود لها بالحكمة، والوطنية، وحسن التدبير للقرار. شغل عودة عدة مناصب تنظيمية خلال فترة الاعتقال، منها الموجه لعام لحركة فتح في عدة ”سجون”. خاض ذلك المناضل أيضاً خلال فترة اعتقاله الإضرابات عن الطعام ضد إدارة مصلحة سجون الاحتلال. كانت البداية من إضراب 2004، واستمرت حتى إضراب 2017، ليعلن في نهاية كل إضراب انتصاراً جديداً يحققه بسلاحه الوحيد المتمثل في الإرادة الصلبة والعزيمة الجبارة التي لا تلين، ذلك رغم كل وسائل القمع التي مارستها “إدارات السجون” بحقه طيلة فترة اعتقاله.
ذاق إسماعيل عودة كغيره من الأسرى طعم المرارة والحرمان وظلم “السجان”، وكان أكثرها ألماً وفاة والدته عام 2010، وقد حدث أن علم بذلك بعد 3 أيام من الوفاة. عانى عودة كذلك من الحصوة في الكلية لسنوات عديدة، رافقها إهمال طبي متعمد انتهجته “إدارات السجون” ضده، واستمر الوضع على ذلك حتى تفاقمت أوضاعه الصحية، وتم استئصال كليته اليسرى عام 2020.
التقيت بإسماعيل عودة المرة الأولى عام 2004 في معتقل عوفر، وأذكر يومها أنه ألقى خطاباً في قسم “1”، بمناسبة ذكرى معركة الكرامة الخالدة. التقيت به مرة ثانية عام 2020 في “سجن النقب الصحراوي”. وجدته وقتها رغم ما رافقه في مرحلة اعتقاله من ألم ومعاناة ومرض وتنكيل “إدارة السجون” له، قد استطاع معززاً بإرادته الصلبة إكمال دراسته الجامعية، فحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة أبو ديس، ثم درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من الجامعة نفسها.
يقبع الآن إسماعيل عارف عودة في “سجن النقب الصحراوي” ليكمل ما تبقى له من حكمه، وبعد عام من الآن سينال حريته، ويكون بذلك قد أمضى 20 عاماً ليعود إلى أحضان شعبه ومحبيه، منتصراً كعادته، ورافعاً شارة النصر.