الشهيد مسالمة..نفق الحرية من الموت في السجن الى الموت في فضاء الحياة
نشر بتاريخ: 2021-09-23 الساعة: 13:32
الكاتب: عيسى قراقع
لهذا يفكر الاسرى الفلسطينيون بانتزاع حريتهم بأنفسهم، يحفرون الانفاق بأظافرهم ويفتحون الاسمنت بإرادتهم، فالموت يلاحقهم في السجون التي أصبحت دفيئة لشتى الأمراض القاتلة، ولهذا يفضلون الموت في فضاء الحياة على الموت في الزنازين المعتمة، ينفجر القهر في اضلاعهم، يفيض الوجع وتستفحل المعاناة في ارواحهم، يسقطون جثثاً هامدة، يتمنون ان يموتوا بين أحضان عائلاتهم لا أن يموتوا في صمت الموت البطيء وتلك المقابر الصامتة.
استشهد الأسير المريض حسين مسالمة يوم 22/9/2021 بعد ان نهش مرض السرطان جسده على مدار 18 عاماً قضاها في السجن، وقد كان على وشك انهاء حكمه، كان يستعد للحرية واستقبال اهله وأصدقائه في ساحة مهد المسيح في بيت لحم مسقط راسه، كان يتمنى ان يضيئ مع المؤمنين والحجيج شجرة الميلاد هذا العام، يزور مقامات الأولياء في قرية الخضر وحقل الرعاة في بيت ساحور، كان متحفزا للتحليق والدعاء في فضاء الترانيم والصلاة، كم كان مشتاقا ليخاطب الأشجار والأطفال، وكم كان مشتاقا ان يمشي في الشوارع دون اغلال، وكم كان مشتاقا ان يصلي في القدس ويستعيد ملامحه التي شوهها الاحتلال.
الشهيد مسالمة ضحية هذا السجن الإسرائيلي الذي يزرع الامراض المميتة في اجسام الاسرى، ضحية الجرائم الطبية المتعمدة، فإما ان تموت في سنوات المؤبدات الفولاذية الطويلات او ان تفترسك الامراض التي تقبض على روحك دون انتظار.
لقد نجحت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية من الافراج عنه بقرار قضائي لأسباب صحية، لم يصل حسين مسالمة الى بيته، ظل اسير البرابيش والاكياس والأجهزة الطبية والأدوية الكيماوية، من السجن الى غرفة العناية المكثفة، من بُرش السجن الى بُرش المشفى الى المقبرة.
الأمراض في السجون والإهمال الطبي والاستهتار بحياة الاسرى وصحتهم هي البديل للإعدام المباشر، بديل لأي حل سياسي قادم أو صفقة تبادل تلوح بالأفق، بديل للعدالة الكونية والإنسانية، من يسبق أولا: الموت ام الحرية؟ وقد تسابق الجلادون الذين يرتدون ملابس الأطباء في اصطياد أرواح الاسرى بوسائل متوارية، اعداد الاسرى المرضى في تزايد، اعداد الشهداء الاسرى في السنوات الأخيرة في تصاعد، فإما ان يصطادك الموت في الظلام او يلاحقك بعد خروجك من السجن، فالمئات من الاسرى المحررين توفوا بعد الافراج عنهم بفترات وجيزة، فالسجن يطاردك بأمراضه وآلامه الشديدة.
الشهيد حسين مسالمة ظل يفتش في اجندات المستشفيات في كل ارجاء العالم عن علاج، كان يملك عكازة الأمل، يحفر نفقا في امراضه لينتزع الشفاء والعافية، وفي المستشفى الاستشاري في رام الله رأيناه يسعلُ ليخرج السجن من اعماقه، أنفاسه الساخنة المتلاحقة تحاول ان تقذف من صدره كل الغازات السامة، كان يحاول ان ينزع الاسلاك التي لازالت تغوص في لحمه، كلماته كانت كلمات محارب عاد من حرب او مجزرة وأطلق الذاكرة.
في المستشفى الاستشاري تجمع حوله كل أصدقائه الاسرى المحررين، كان يعرف انهم قتلوه وان الأيام الباقية معدودة، لكنه كان يحاول ان يجدد مع أصدقائه ولادته الدائمة، حسين مسالمة كان يبتسم ابتسامات الوداع، هيكلاً عظمياً يتبادل مع أصدقائه الذكريات، وحينها عرفنا كيف يملك الاسرى مفاتيحا لأبواب السجن لا يراها السجان، مفاتيح الإرادة والنفوس المتمردة الثائرة.
لا وصية للشهيد حسين مسالمة سوى ان يدفن مع الشهداء، يحمد الله انه ليس محتجزا في مقابر الأرقام او في الثلاجات الباردة، لا وصية له سوى ان نكون أوفياء لمن بقوا خلفه في غياهب السجون، ان لا يتركوا تحت رحمة السجان، يكفينا جنازات، يكفينا حسرات، يقول حسين مسالمة، نحتاج الى مقاومة تؤدي الى الفرح والحرية، المقاومة فرح، وما أروع من مقاومة هدفها تحرير الانسان، وما أفصح البراكين وما أجمل شهوة الانفجار.
mat