الرئيسة/  مقالات وتحليلات

سجن النقب: أنياب تفترس زمن الزيارة!

نشر بتاريخ: 2021-08-15 الساعة: 14:08

 


استيقظتُ صباح الاحد الماضي في سجن النقب جنوب فلسطين المحتلة، وكنتُ محاصراً بشمس حارقة تكاد تشعل النار في جسدي وأجساد رفاقي وغرفتناوملابسنا المتواضعة، ولولا التفاؤل بزيارة مرتقبة ظهر اليوم لأطبقتْ حرارة الشمس على المكان الضيق وحولتنا إلى "رماد"! لكنها السعادة التي تمتلك أسلوبها في تعزيز أدوات التماسك والأمل.


عصفتْ بصحراء النقب موجة حارة غير مسبوقة منذ مطلع آب الجاري، "حرقتْ" الملابس وخيام الأسرى وحاصرتْ العلب الحجرية المغلقة والضيقة! وكادتْ تبخر الاوكسجين وتمنع الشهيق والزفير! وسدتْ منافذ النوم، ونشرتْ البعوض والذباب..وبات الأسرى في مخمر للموز! وبدتْ الموجة الحارة كأنها في تحالف سري صامت مع إدارة معتقل النقب! تأملتُ في الصباح أربعة من رفاقي يتقلبون على جمر أسرتهم الحديدية، وأنا خامسهم الذي نهض من سريره الحديدي لاستقبال الخطيبة نجود.

شربتُ على الثامنة صباحاً كوبين من الماء الفاتر استمرارا للعادة التي لازمتني منذ سنتين، تفقدتُ ملابسي التي سأرتديها اليوم في الزيارة: بلوزة صيفيه ذات لون أسود ومعها "بدلة" ‏بنية اللون بنطال وقميص(اللباس الرسمي للأسرى داخل السجون ) ولا يسمح بالخروج من باب القسم دون ارتداء ملابس المعتقل، ‏تفقدتُ الكمامة التي سأضعها على وجهي؛ اذ يمنع الخروج دونها وذلك منذ تفشي فايروس كورونا وقد وظفته إدارة السجون ببراعة لحرماننا من لقاء الأهل منذ مدة طويلة.
من ساحة "الفورة" سمعتُ صوت فيروز الملائكي يتحرر من مذياع أحد الأسرى: (قديش كان في ناس …ع المفرق تنطر ناس). جهزتُ القهوة وسكبتُ أربعة فناجين لرفاقي بالغرفة الذين بدأوا الاستيقاظ على جمر مشتعل.
تواصلتُ مع ( نجود) التي اعتادت على زيارتي منذ أن عقدنا قراننا قبل ستة أعوام. رن هاتفها، ‏وسمعتُ صوتها وأخبرتني أنها على حاجز الطيبة العسكري ‏الذي يفصل بين الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل عام ١٩٤٨ وقالت إن حافلة (الصليب الأحمر) تحتاج نحو أربع ساعات للوصول إلى سجن النقب. ‏لا خيار لي سوى الانتظار أربع ساعات واستعادة شطراً من قصيدة محمود درويش:
بذوق الأمير (الرفيق) البديع الرفيع
انتظرها
بسبع وسائد محشوة بالسحاب
انتظرها
ولا تتعجل
فان أقبلت بعد موعدها ..انتظرها
وان اقبلت قبل موعدها..انتظرها

‏بدأ السجانون على الواحده والنصف من بعد الظهر ‏بالتجهيز لزيارة الأسرى، ‏خرجتُ من غرفة السجن نحو قاعة الزيارة برفقة خمسة أسرى من القسم الذي نقبع فيه. ‏دخلنا القاعة وانتظرنا وصول الأهالي من الجهة المقابلة، وبعد انتظار عشر دقائق، أطلتْ نجود من بين الوجوه القادمة، تضع الكمامة على وجها وبرغم ذلك ملامح الفرح والإبتسام تظهر على محياها وفي نظرات عيونها. ‏كانت أنيقة كعادتها جلست قبالتي لمسافة تقل عن المتر الواحد حيث يفصل بيننا الحاجز الزجاجي. أمسكتْ سماعة الهاتف وبدأنا أطراف الحديث بكل فرح وسرور. ‏شعرتُ وكأننا نسرق لحظة سعادتنا من بين أنياب سجان يمتلك براعة افتراس الوقت! كان الجلادون يراقبون كل حركة وكل همسة تساعدهم في ذلك شبكة من الكاميرات الصامتة في قاعة الزيارة! بدا غيظهم ونحن نسمو في لحظة كبرياء على السجان ونعلن انتصارنا،وتكمن نشوة الفرح ‏حين نصنع سعادتنا في أصعب وأحلك الظروف..نطيرُ فرحاً عندما ننتزع أجمل لحظات اللقاء من فك السجان ونحطم أنيابه لمدة نصف ساعة من الانتصار. تنتهي الزيارة، يتوقف الزمن، ونعود إلى (الزمن الموازي) وفق التعبير الذي نحته الأسير الصلب وليد دقة على أمل أن يتجدد اللقاء قريباً .. وتهل بشائر الحرية.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024