الرئيسة/  مقالات وتحليلات

رحل الحاج سامي صادق أيقونة المقاومة الشعبية في الأغوار

نشر بتاريخ: 2021-07-11 الساعة: 19:04


نائل موسى

  الصورة للحاج سامي صادق 
ربما لا يتذكر كثيرون، ذلك الحضور المبكر والمتكرر للحاج سامي صادق، رئيس مجلس قرية العقبة الفلسطينية الشفاغورية، على صدر صفحات الحياة الجديدة، إثر صولاته ضد الاستيطان، واليوم مر ربع قرن غير منقوص ليعود يحتل عين المكان ولكن بفاجعة وفاته الصادمة لمريدي ورفاق المقاومة الشعبية. 
قبل تلك المقابلة الصحفية في منزله بقرية العقبة بمحافظة طوباس، كنت التقيته غير مرة، في مقر اللجنة العامة للدفاع عن الأرض، وفي الفعاليات الميدانية، تلاها تواصل شبه يومي ومتى لزم، لكن الحاج صادق أصر على زيارتي له في القرية التي تتعرض لخطر وجودي محدق للتعرف على مختلف التفاصيل وحجم المعاناة التي يجرعها الاحتلال للأهالي وما اعتقده من مخطط مبيت لدفع من تبقى إلى الرحيل، فقد آمن بأهمية الرسالة الإعلامية الواعية، في معركة القرية وبأن الاطلاع عن كثب يسهل المهمة ويمنح الكتابة معنى ومغزى ذا مصداقية تحتاجها المحطة المقبلة من النضال. 
.. يومها لم أكن سمعت مثل كثيرين ربما، عن قرية العقبة نفسها، لأقدر أهمية تلك الزيارة ومقابلة ذلك الرجل لغرض النشر، مقارنة مع الوقت ومشقة السفر والكلفة التي ستبذل في سبيل إنجازها، لكن إيمان الرجل بقضية قريته وتحمسه في شرحها والدفاع عنها، لم يدع مجالا للتردد. 
في تلك الفترة لم تكن المقاومة الشعبية بالمفهوم المتداول الآن، مصطلحا سياسيا قد تبلور أو تمأسس بعد، وأجزم أن الحاج صادق حينها لم يكن إضافة إلى قاموسه السياسي البسيط، ولم يكلف نفسه عناء استحضاره وإسقاطه على واقع حراك القرية، وعلى النقيض ربما أعطت الممارسة العملية في مواجهة ممارسات وسياسة الاحتلال الآخذة بالتطور شكلا وكما الفكرة والمعنى الذي يفهمه دون كلمات منمقة.
ولد الحاج سامي في عام 1955، في قرية "العقبة" ، لعائلة مزارع تنحدر أصولها من القرية وظلت مرتبطة بالأرض كمصدر رزق، وتربت على التمسك بها كعادة وفكرة لم تستطع زعزعتها إجراءات الاحتلال المتصاعدة منذ عام 1967، وهذه الخلفية بعينها هي من رسم تلك الصورة للشاب وذلك التصور الأنموذج للمقاومة الشعبية ذات الخصوصية المتعلقة بصاحبها.
بعد أربع سنوات من احتلال باقي الأراضي الفلسطينية، أقعد رصاص الاحتلال الشاب الذي رحل وهو يحمل قرب قلبه إحداها، على كرسي متحرك لم يبرحه قط، لكن كرسي الإعاقة ذاته أضحى لاحقا بإرادة صاحبه الصلبة، مع الكوفية السمراء، رمزا لمقاومة القرية وتشبث أبنائها بأرضهم وإصرارهم على الصمود مهما غلت التضحيات.
لم تفت الإعاقة الحركية وحالة الشلل الدائم من عضد الشاب فانبرى يعوض عدم إكمال الدراسة بتلقي الدورات وخصوصا في مجال اللغات فأتقن إلى جانب العربية العبرية والإنجليزية التي سيحتاجها لاحقا في خدمة قضية قريته وإعلاء صوت أبناء شعبه على غير صعيد.
 ومع توحش غول الاستيطان لفرض وقائع على الأرض، تنامت المبادرات الجماهيرية لمواجهة التوسع الاستيطاني ومصادرة الأرض وهدم المنازل ومن ضمنها ظهرت اللجنة العامة للدفاع الأرض ومقرها الرئيس في مدينة رام الله والتي سارع الراحل للانضمام إليها والمشاركة في فعالياتها الأسبوعية والأخرى الآنية لمواجهة اعتداءات وإجراءات بعينها وبرز فيها.
وأظهر الراحل شجاعة في وجه غول الاستيطان ومصادرة الأراضي والتهجير المنفلت في الأغوار وتحديدا في قرية العقبة. حتى أضحى أيقونة المقاومة الشعبية ورمزا من رموز عملها الذي بقي متمسكا صامدا في الدفاع عن الأغوار. 
يوم قابلته هناك في بيته أشار إلى الطريق الضيق الذي سلكته إلى المكان والموصل الوحيد إلى أغلب المنازل وهو يقول ممازحا، لو بكرت قليلا لما كان بوسعك العبور، إذ تعطلت كالعادة إحدى دبابات جيش الاحتلال وأغلقته تماما وقطعت السبيل، وتابع بحس فكاهي يغص بالمرارة عرضنا إصلاح الدبابة لنتمكن من المرور، هذه المناورات التي تدنو من منازلنا يوما إثر آخر هدفها التنغيص والتكدير وجعل حياتنا أصعب وخلق جو رعب دائم يعزز الرغبة في النفوس للبحث عن السكينة والأمان والهدوء ولكننا هنا باقون حتى لو تطلب الأمر إصلاح أو جر أو حتى قلب الدبابة.. الدبابة التي قاومها صامدا شامخا وتحداها وهو على كرسيه المتحرك أظهر على وهنه عجزها.
ولتقريب الصورة، تفع العقبة على منحدر يفصل غور الأردن عن سلسلة جبال الضفة الشمالية في محافظة طوباس والأغوار الشمالية، وعلى بعد 15 كيلو مترا من الحدود الأردنية. في منطقة استراتيجية جعلتها محط أطماع، وهي محاصرة بقاعدتين لجيش الاحتلال، الذي يهدد بمسحها وطرد ما تبقى من أصحابها بعد رحيل نحو 70 % منهم في عدوان 1967.
انخرط الراحل في المقاومة الشعبية مبكرا وآمن بها كرسالة وواجب وقاد حملة حماية العقبة والأغوار والدفاع عن هويتها الفلسطينية “ وتعزيز صمود الأهالي التي تتعرض لمخطط تهجير.
ورأى الحاج صادق أن المقاومة الشعبية التي يفهمها ليست مظاهرات ومسيرات ووقفات وبيانات شجب على أهميتها فقط، بل أساسها ربط الأرض وحمايتها بحياة أصحابها بمساعدتهم لتكون مصدر رزقهم ومعيشتهم وتعزيز صمودهم عليها وتسهيل حياتهم فيها بتوفير بنى تحتية وخدمات ومؤسسات ومن أجل ذلك سعى وطاف كثيرا من المحافل والمنابر موضحا تارة، ومطالبا أخرى، واستطاع تحقيق الإنجاز تلو الآخر وبالتوازي فضح سياسة الاحتلال لدى الرأي العام الدولي وخلق ضغطا وإرباكا دائمين.
 ولهذا الغرض، جاب الراحل على كرسيه كثيرا من الدول العالم وببساطته وعفويته عرى سياسة الاحتلال وفند روايته الزائفة واستطاع عرقلة مخطط تهجير ما تبقى من الأهالي، حتى باتت قصة قريته الصغيرة، معروفة محليا وإقليميا ودوليا ومحط اهتمام.
 يوم التقيته في منزله كان فخورا بوصية والده له ولإخوته الذكور والإناث بالاعتناء بالأرض وعدم التفريض بها أو إهمالها واليوم، بعد 25 عاما يأبى أن يرحل قبل أن يسلم الراية كما يليق بمناضل صلب وهب حياته لخدمة بلده ووطنه وقاد مسيرة عطاء على بوابة الأغوار. 
.. رحل وهو يحمل الخلف ممن تجرعوا بخسارته الحزن والأسى وصية السلف بأن الأرض هي العرض، فاستمروا حتى كنس الاحتلال.. مسيرة وجهت دورا نضاليا، ووصية لاقت الحب واحترام وتقدير مختلف المؤسسات والقوى والفعاليات، عزاؤها أن الموت الذي غيب الجسد، لم يخذله، وواراه حيث أراد في الثرى الذي بادله الخشية من الفراق بالعناق الأبدي، والحب بالوفاء.

 

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024