الهوية والذاكرة الوطنية المعرفية، هما النصر
نشر بتاريخ: 2021-05-27 الساعة: 02:27
باسم برهوم
ما أفرح قلوبنا في المشهد الفلسطيني الرائع الأخير هو أن الجيل الفلسطيني الجديد، وخاصة في مناطق عام 1948، وفي الشتات يدرك هويته الوطنية الفلسطينية، ويقول أنا فلسطيني. وأخص مناطق الـ 1948 والشتات لأنه في الأولى فشل معه مخطط الأسرلة وفي الثانية لم تطمس هويته أو تذب وتنصهر في هويات أخرى. أهمية هذا الإعلان بقوة عن الهوية هو الرد الأقوى على المشروع الصهيوني الذي تمادى وتمدد في عمق الوطن العربي وحاول وفي ظل التواطؤ أن يحسم مصير القدس، والقضية الفلسطينية برمتها.
ولكن إدراك الهوية هو الخطوة الأولى، لأن تحصين هذه الهوية بحاجة لذاكرة وطنية جماعية، عميقة المعرفة بالقضية الفلسطينية، وبالثقافة والتراث الفلسطيني. إذا لم نحصل على هذا التحصين فإن الهوية تبقى هشة وتكون في خطر ويسهل تشويه الوعي مرة تلو أخرى خصوصا أن أعداء الشعب الفلسطيني ليسوا قلة، ويأخذ تدخلهم في الشأن الوطني الفلسطيني أشكالا عديدة ولكن الهدف لهم واحد هو تقطيع الذاكرة الوطنية، وجعل الضحية في الذاكرة هي من تسببت بتدمير نفسها.
هناك حاجة لأن ندرك أن بناء الذاكرة الوطنية، هو أمر في غاية الصعوبة عند كافة الشعوب، فما بالك عند الشعب الفلسطيني الذي جرى تشريده وتمزيقه وفرض وقائع مختلفه سواء ضمن الوطن الفلسطيني (ضفة، غزة، قدس شرقية، مناطق الـ 48) وفي الشتات هناك واقع في مخيمات اللجوء تختلف عن واقع الفلسطينين الموزعين في بقاع الأرض. وإلى جانب هذا التمزيق بحكم الوقائع المختلفة كان هناك عمل منهجي تشترك فيه أطراف عديدة لمنع تماسك الهوية والذاكرة.
لماذا دخلت الفرحة إلى قلوبنا لأن الشعب الفلسطيني انتصر على كل ذلك، وفرض وجوده كشعب واحد موحد على الساحة الدولية، الأمر الذي فاجأ كل من خطط لتمزيق وحدته وطمس هويته. الذي حصل أمر كبير، إنه لحظة تاريخية فارقة،لكنها بحاجة لأن تحصن معرفيا، وخلال المشهد الرائع هذا كانت هناك ماكينات تعمل على حرف البوصلة عن العدو الرئيس، باتجاه الضحية، وهي ماكينة خبيثة تمتلك إمكانيات هائلة لأن خلفها هذه الصهيونية العالمية، وتعمل لخدمتها، كل الدول المطبعة في العلن والسر، وتلك المتسترة ولها دور بث الفتنة وتعميق الانقسام، وتأصيله في الساحة الفلسطينية، تجيشت لتقوم بمحاولة منع إنضاج لحظة الوعي هذه، وتجزئة الذاكرة الوطنية، مرة أخرى. لأن وجود ذاكرة موحدة، ذاكرة معرفية تتراكم بشكل طبيعي، هو السلاح الأمضى بيد الشعب الفلسطيني.
بقدر ما يفرح المرء يحزن لأن البعض وبعد كل هذه العقود من الصراع كان ينتظر إسرائيليا يهوديا مجهول الهوية ليقول له إن جوهر المشروع الصهيوني هو الهجرة والاستيطان ونفي وجود الفلسطينيين كشعب له حق تقرير المصير على أرضه وأن كل حكومات إسرائيل إن لم تكن تنوي إنهاء الاحتلال أو حتى وقف الاستيطان، وما لم يقله هذا المجهول أن الصهيونية اغتالت رابين لمنع تكريس الكيانية الفلسطينية على أرض فلسطين.
أمر محزن أن يكتشف فلسطيني الآن في هذه اللحظة أن الدول العربية قد اعترفت عمليا بإسرائيل عام 1948 وعام 1949 عندما وقعت معها اتفاقيات الهدنة. أمر محزن ألا يعرف الفلسطيني أن اعتراف الدول العربية بالقرار 242 مباشرة بعد حرب عام 1967هو عمليا كان اعترافا وقبولا بوجود إسرائيل، أمر محزن ألا يعرف الجيل الجديد أن مؤتمر مدريد للسلام الذي حضره العرب جميعا، وأقول جميعا إلى جانب إسرائيل عام 1991 ومنعت منظمة التحرير الفلسطينية من حضوره بضغط من إسرائيل قد عقد على أساس القرار 242. وللتذكير جاء هذا المؤتمر في ذروة هزيمة الأمة العربية في حرب الخليج الأولى. وفي ظل انهيار حليف حركات التحرر الوطني، الاتحاد السوفييتي، وعندما كانت أميركا قد احتلت مباشرة منطقة الخليج العربي وحاصرت العراق.
الذاكرة الوطنية إذا لم تكن معرفية، يسهل تجزئتها وتحويل الضحية بأنها هي سبب دمارها، وليست هذه الأنظمة، التي بلغت فيها الوقاحة أن تشطب مبادرته بأيديها والتي تنص على أن لا تطبيع مع إسرائيل قبل إنهاء الاحتلالها لكامل الأرض الفلسطينية والعربية منذ حرب 1967. كل هؤلاء تجيشوا بكل ما لديهم من إمكانيات حول هدف واحد، حرف البوصلة عن تخاذلها وإلصاقها بالضحية تماما كما جرى عام 1948 عندما حاولوا إقناع شعوبهم بأن الشعب الفلسطيني قد باع أرضه للصهاينة، وحاولوا إقناع الشعب الفلسطيني بأن سبب ضياع فلسطين هو قيادة الحاج أمين الحسيني..!!!
لنعد أشهر قليلة إلى الوراء، ألم يتوحد الشعب الفلسطيني كله في رفض ومقاومة صفقة القرن، ألم تفشل كل الضغوط على القيادة الفلسطينية ( الحصار السياسي والمالي والاقتصادي)، في ثنيها عن مواقفها، ألم يكن كوشنير هو الآمر الناهي في المنطقة العربية، وكانت أبواب العديد من العواصم كلها مفتوحة له، إلا باب فلسطين، باب هذه القيادة، وحده المقفل في وجهه،ألم يتم وضع الرئيس أبو مازن في عزلة عربية، ودولية، في كل سنوات ترامب، بل وقطعوا كل أنواع المساعدات المالية عنه في حين كانت تتم تغذية الانقسام بالمال...!!! غير أن صمود الرئيس وسياسته اسقطتا هذه العزلة ليبقى الرقم الفلسطيني في معادلة الصراع هو الرقم الصعب الذي يستحيل شطبه، ولا حتى تجاوزه.
والمهم اليوم أن نحافظ على الإنجاز الذي تحقق وهو إنجاز كبير وتاريخي، ألا نسمح لبعض الأنظمة مرة أخرى أن تطهر ذنوبها من خلال إلصاق التهمة بالضحية، أما تصحيح المسار الوطني فهو أمر يخصنا وحدنا، أقصد نحن الشعب الفلسطيني.
mat