الرئيسة/  مقالات وتحليلات

حدث المحكمة..!!

نشر بتاريخ: 2021-03-09 الساعة: 19:31


حسن خضر

توقفتُ، منذ «سلام إبراهيم»، بالمطلق، عن مشاهدة الفضائيات العربانية. لذا، أكتفي بـ»فرنسا 24» الناطقة بالعربية، وهي تستحق الثناء، فعلاً، والـ»بي بي سي» البريطانية، إضافة إلى فضائيات أميركية. وفي هذا السياق، بالذات، شاهدت مقابلة فوكس نيوز الأميركية («جزيرة» أميركا) مع نتنياهو، للتعليق على قرار محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق في «احتمال» أن تكون إسرائيل ارتكبت جرائم حرب خلال الحرب على غزة في العام 2014. المقابلة جزء، بطبيعة الحال، من حملة وإستراتيجية الرد الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، على المحكمة.
وإذا شئنا استنباط مفاصل الرد مما جاء على لسان نتنياهو من كلام، وما تجلى على قسمات وجهه من تعبيرات، فلنقل: إنه كان غاضباً (من وقاحة «الجنائية»)، ومجروحاً (من تطاول أعداء السامية هؤلاء)، ومتحدياً (لأن أميركا وأوروبا معه)، وواثقاً من سحره اللغوي والشخصي (لأن الذي قلب تقرير غولدستون، وقبله قرار الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية، يمكن أن يقلب غيره)، أما «بضاعته»، أي المضامين والمفاهيم واللغة، فتتكون من «بسطة» الخردوات الأيديولوجية، والسياسية، التقليدية، التي يعرفها أصحاب الاختصاص في إسرائيل، وكل مكان آخر.
والواقع أن اجتماع دلالات الغضب، والجرح، والتحدي، والسحر، تصلح مجتمعة لتحليل ما يتجاوز حدث المحكمة، ويطال سردية الدولة الإسرائيلية عن نفسها، وعلاقتها بنفسها وبالعالم، وهذا كله نجده على «بسطة» الخردوات الأيديولوجية متعددة الاستعمال، أي التي تصلح لتفسير وتبرير أي شيء، وكل شيء في آن. ولأنها كذلك، يبدو الكثير منها منتهي الصلاحية، أو تعرّض لأكثر من عملية تجميل، وفي هذا كله ما يُلقي ظلالاً من الشك على صدقية الدلالات: أحقيقية هي أم مفتعلة؟ أغاضب ومجروح هو، فعلاً، أم يتظاهر بهذا وذاك؟
وبقدر ما أرى، يتبادل الصدق والكذب المنافع بمرونة وروح رياضية عالية. ولستُ، هنا، والآن، بصدد التركيز على أمر كهذا، بل التفكير في ظاهرة بعينها، وتوظيف الحالة الإسرائيلية للتدليل عليها كوسيلة إيضاح محتملة. الظاهرة التي في الذهن هي الاستثناء، أي أن تُعطي كيانات لنفسها حقوقاً تتجاوز المنصوص عليه في القوانين والأعراف والتقاليد ذات الصلة، أو أن تفرض حق الاستثناء كقانون مُلزم للآخرين، وأن تُمكّن هذا كله من مرافعات أيديولوجية تضعه في مرتبة «الحق» «الطبيعي» و»المقدّس»، أيضاً.
هذا موضوع طويل وعريض، منذ العصر الحجري وحتى يوم الناس هذا. كما أن «الحق» «الطبيعي» و»المقدّس»، يتغيّر مع تغيّر الأزمنة، وتتغيّر حتى لغة وطريقة التعبير عنه، وثمّة ما لا يحصى من الحقوق الطبيعية والمقدّسة، التي ضاعت في غياهب التاريخ، لم يعد يذكرها أحد.
على أي حال، فلنفكر، فقط، في أن كل ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، والمواثيق والمعاهدات ذات الصلة، لم تكن ممكنة قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن المواطنة، ابنة الجمهورية، لم تكن ممكنة، لا هي ولا أمها، قبل الثورة الفرنسية، والاستقلال السياسي القومي لم يكن ممكناً قبل الثورة الأميركية، والثورات الاجتماعية الكبرى لم تكن ممكنة قبل ربيع الشعوب الأوروبية، والعداء للكولونيالية لم يكن ممكناً دون، أو قبل، صعود الحركات القومية في المستعمرات.
بمعنى أن الكثير، في كل ما ذكرنا مما يدخل هذه الأيام في باب «الحق» «الطبيعي» و»المقدس»، ويبدو مألوفاً ويتاخم حد البداهة، حديث العهد أولاً، ولم يُعترف به إلا بعد تحوّلات راديكالية، وغالباً ما كانت مُكلفة ثانياً، وأن أعداءه ربما أكثر من مناصريه ثالثاً. ولنفكر، أيضاً، أن كل هذا الرصيد من الحقوق، والامتيازات والإنجازات الإنسانية البديعة، على قدر كبير من الهشاشة، ويمكن الانقلاب عليه، وأن الكثير منه تآكل فعلاً في العقود القليلة الماضي، بل وحتى بشكل متسارع في الآونة الأخيرة.
فلا حقوق الإنسان كونية، ولا الحروب نفسها تتساوى أو تخضع لقانون عام، ولا الحق في تقرير المصير مقدّس؟ ولا الديمقراطية أفضل من الدكتاتورية. فمن كان سيصدّق أن نشهد في القرن الواحد والعشرين أسواق الجواري في سورية والعراق، واقتحام دواعش أميركيين للكونغرس، ونجاح الهوامش العربانية في احتلال الحواضر العربية، وإخضاعها بالمعنى الأيديولوجي والسياسي، ناهيك عن تحالفها مع إسرائيل التي أصبحت «روما الجديدة».
وقد حدث هذا كله بمنطق الاستثناء، الذي يُسوّغ لكل مَنْ ذكرنا الاحتكام إلى معايير أخلاقية، ومفاهيم سياسية، مختلفة، ويرى أنها تحق له حتى لو كانت لا تنسجم، بالضرورة، مع ما نصّت عليه القوانين والأعراف والتقاليد الدولية ذات الصلة. ومصدر ما يحق ولا يحق ذاتي، تماماً، بطبيعة الحال. وبقدر ما أرى، فإن كيانات بعينها يختلط فيها السياسي بالأيديولوجي على نحو فريد، أسهمت أكثر من غيرها في ما حدث من تآكل في العقود القليلة الماضية، وفي تطبيع وتكريس الاستثناء، وبالتالي في خراب العالم، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، التي انتصر فيها معسكر على آخر.
تبدو خلاصة من نوع خراب العالم راديكالية تماماً، وربما لا تشكو ندرة المبالغة. وعلى الأرجح، ثمة قوائم بمن خرّبوا العالم بعدد المعنيين بها، فلكل أسبابه وحساباته وقائمته الخاصة. ومع ذلك، لا أستطيع التفكير في قائمة لا تضم الهوامش العربانية وأميركا وإسرائيل. المسوّغات كثيرة، وسنأتي على ذكرها في معالجات لاحقة. وكل ما في الأمر أن حدث المحكمة يستحق أكثر من وقفة، وتسليط أكثر من ضوء على زاوية مُعتمة.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024