الرئيسة/  مقالات وتحليلات

فلسطين قلب الشرق

نشر بتاريخ: 2020-12-27 الساعة: 12:47

ميساء أبو زيدان

مُنعت مظاهر الاحتفال بميلاد سيدنا عيسى عليه السلام في غزة التي شهدت خلال العقدين الأخيرين انخفاضاً دراماتيكياً في تعداد الفلسطينيّين من معتنقي الديانة المسيحية، المدينة التي تحتضن كنيسة القدّيس بريفريوس ثالث أقدم الكنائس في العالم حسبما ذكرته بعض المراجع، وهي ذاتها تتوسط القطاع الذي يقوم على مساحاتٍ شاسعة من الآثار التي تشهد على حقبٍ مختلفة من تاريخها الزاخر. ويبدو أن ما يحدث في قطاع غزة هو جزء من مخطط خطير يشمل فلسطين بأكملها ويستهدف الوجود المسيحي فيها، كما في المنطقة برمتها حيث شهدنا منذ عقود عمليات التهجير المبرمجة لمعتنقي الديانة المسيحية فيها تمهيداً لترسيخ الصبغة العقائدية في الصراعات القائمة عليها.

 

وما زالت المدارك بأسس الصراع ضحلة لدى فئاتٍ مختلفة أهمها هذه الأجيال الناشئة التي تعاصِر ثورة التكنولوجيا والاتصالات، وباتت رهن ماكيناتٍ هيأت المناخ العام لتبني الرواية الصهيونية ولكن من الجهة المُقابلة التي اقتيدت لها لتنسجم وفصول الرواية، حيث اكتوى وعيهم بِفعل جملة الظروف التي أحاطتهم، أبرزها استهداف الهوية الوطنية. لنجد أنفسنا أخيراً في معركة بين طرفي الصراع الذين يتنازعان لإثبات ديانة أرض فلسطين وهل هي يهودية أم إسلامية. الأرض التي شهدت نشأة حضاراتٍ متنوعة شاركت في صنع الإرث الإنساني وأحداثٍ دينية مهمة، الأرض التي احتضن شعبها سيدنا إبراهيم عليه السلام ولها لجأ سيدنا موسى عليه السلام وفيها وُلِد رسولنا عيسى عليه السلام واليها أسرى بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وإن كانت تلك الفرضيات التي تسعى لصبغ الأرض بديانةٍ محددة تمتلك من المنطق الداعم لها الحد الأدنى لاختلفت خريطة العالم بأكمله.  

 

إن الصراع القائم على فلسطين أرضاً وشعباً يتخذ من الرواية الصهيونية المرجع الأساس كونها تهدف لتحويله من صراع تاريخي سياسي لصراع عقائدي ديني، ذات الرواية التي حرصت على توفير الدلائل المادية سواء كانت إرثاً أم تراثاً من خلال تزوير الآثار وتاريخ المواقع المنتشرة على امتداد الأرض بل تزوير أسمائها التي انتُزعت من حضارات شعبها، وسرقة التراث كما حدثَ إبّان النكبة عندما سُلِب الفلسطينيون أرشيفهم المادي والمنقول، إضافةً لِما حدث بالزي الفلسطيني ووأد الألعاب الشعبية وتزوير هوية الطعام بل والحلويات أيضاً كما حدث مؤخراً عندما صنفوا الكنافة النابلسية بأنها من التراث اليهودي! لكن لم يتوقف الأمر حد ذلك؛ إذ أن الوجه الأخطر في هذا الصراع هو تغيير هوية الأرض وإنسانها وتزوير ملامح الوجود الفلسطيني.

 

تقوم الرواية الصهيونية على تهويد الأرض وتطهيرها من إنسانها المشرقي الجذور، لكن لا تكتمل حلقاتها دون صنع الند المتوافق وسيرورة المخطط الصهيوني وبالتأكيد الحامل لصبغة عقائدية بحيث يظهر تهديداً فعلياً على اليهودية، الحلقة الأخطر هو طمس فصول من تاريخ إنسانها باتجاه إقصائه إلغاءً لوجوده وبالتالي ترسيخ الرواية الزائفة. وبصريح العبارة بات استهداف الوجود المسيحي في الأرض التي شهدت ولادة رسول السلام وتعتبر قبلة مسيحيي العالم الهدف الأبرز في هذا المخطط، ولهذا الاستهداف أوجه عديدة تظهر بذات الآلية التي تتكون بها الهوابط داخل الكهوف الجيرية، ولكننا لسنا بصدد استعراضها هنا.

 

لطالما استُغلت الأديان لفرض وقائع مختلفة وللسيطرة على الإنسان، وما شهدته القارة العجوز بعصورها الوسطى إلا خير مثال، المثال الذي يُحال لمنطقتنا (الشرق الأوسط) منذ ثلاثينيات القرن الماضي عبر المشاريع المتأسلمة التي لا تتصل بحقيقة الدين الإسلامي السمح، بل استخدمت وحسبما أثبتته الوقائع يداً طولى للقوى المُستهدفة لبلادنا وإنساننا تمهيداً للمشروع الصهيوني التطهيري الإحلالي التوسعي الذي يمطر منطقتنا بعسل التطبيع ظاهراً السلام باطناً، دليل ذلك هو احتضان تلك المشاريع وإمدادها من قِبل أطراف تدّعي حمايتها للإسلام في الوقت الذي تتعاون فيه مع مَن شوه جوهره وسماحته.

 

إن الله واحد أحد ورسالته للبشرية واحدة، ولعباده حرية اختيار دروبهم المختلفة لخالقهم، أما فلسطين فهي بوابة الشرق التي فيها أنشأ إنسانها مختلف الحضارات، واعتنق الأديان واستقبل الآخر القادم على قاعدة العيش المشترك، إنسانها المُتعبد على قمة جرزيمها وحامل مفاتيح كنائسها وحامي مسجدها الأقصى، المتصدي لقوة الاحتلال المتطرف تكويناً واللاإنسانيّ بممارساته البشعة المُنتهك لحرمة الأديان وكرامة الإنسان. الفلسطيني الذي بات اليوم أمام ضرورة الدفاع عن هوية أرضه المشرقية العربية وصون تاريخه وحضارته وإرثه والتصدي لمحاولات سلبه هويته الوطنية، هويته التي ستتكسر على صخرتها تلك المشاريع المُستهدفة لوجوده على أرضه (فلسطين) قلب الشرق.

m.a
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024