كان يصرخ بين القبور...!!
نشر بتاريخ: 2020-12-24 الساعة: 12:51بقلم: عيسى قراقع
ظل يصرخ رغم وحشة المقابر، رغم السياج المحيط بها، رغم اعتبارها مناطق عسكرية سرية، ظل يصرخ: هنا شهداء محتجزون منذ سنين طويلة، لهم اسماء واحلام وكواشين ميلاد وعائلات.. هنا بطولات ودماء طازجة ساخنة وعيون مفتوحة، هنا تحت التراب فدائيون حملوا الفكرة والجمرة والرصاصة وصنعوا الحاضر والمستقبل.
ظل يصرخ، انتزع الارقام المثبتة عل المقابر واستبدلها باسماء الشهداء الساكنين فيها، اعلن عن عودتهم القريبة من الابدية، لهم الحياة الأولى ولهم الحياة الآخرة، عانقهم شهيدا شهيداً، انتظرهم في رام الله والخليل وجنين ونابلس وغزة، انتظرهم على بوابات الثلاجات الباردة، انتظرهم في المشرحة وفي المحكمة وفي المقبرة.
انه المناضل المرحوم سالم خلة ابو زياد، المنسق العام السابق للحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين والذي توفي مساء يوم الأحد 20-12-2020، غادر الدنيا بعد أن أصابه مرض عضال، وفي آخر زيارة له في بيته في مدينة رام الله كان ولا زال يصرخ رغم وضعه الصحي الصعب، ينادي على الشهداء الذين تحتجزهم دولة الاحتلال في مقابرها التي تسمى مقابر الأرقام، وقال لي: بالأمكان استعادة جميع الشهداء، وعلينا ان لا نترك الشهداء وحدهم فريسة لقوى التطرف والظلام والفاشية الاسرائيلية، علينا ان نستعد لغسلهم وتشييعهم والصلاة عليهم، ان نسير في مواكبهم واعراسهم، فمن لا يستطيع ان يحرر شهيدا لن يستطيع ان يحرر وطن.
وظل سالم خلة يصرخ بين القبور، يعدد اسماء 254 شهيداً لازالوا محتجزين في تلك المقابر البائسة، يعرفهم واحداً واحداً، يعرف ملامحهم وبيوتهم وأسرهم وأولادهم، يحفظ سيرة نضالاتهم: من قاوم حتى الرمق الأخير، من اغتالوه ميدانياً لمجرد الاشتباه، من قتلته فرق الموت الاسرائيلية عن سبق اصرار، من قتلوه في السجن مرضاً وتعذيباً وقهراً واحتجزوا جثمانه، يعرف الشهيد والشهيدة من كل قرية ومخيم ومدينة.
وظل سالم خلة يصرخ: المعركة الآن تدور على شرعية وقدسية الدم والروح، المعركة على المبادئ والقيم التي صنعها الشهيد ورصف بدمه طريق الحرية، المعركة مع الاسرائيليين على معنى الموت، على هوية الموت، من يغلق مقبرة يغلق بلد، من يحتجز شهيداً يحتجز تاريخاً وثقافة وذاكرة وحقوقا ومصيرا لا زال يفيض بالموت.
وظل سالم خلة يصرخ، لا يسمعه المأسورين في المقابر فقط، بل يسمعه الاحياء المأسورين في الصمت والسكون والدهشة، غير مدركين ان الشهداء اعطوا حياتهم للاحياء من بعدهم، كان يصرخ لعل ضمير المجتمع العالمي يستيقظ ويدرك ان الاحتلال الاسرائيلي يمارس اكثر من جريمة بأحتجازه جثامين الشهداء، ينتهك القنون الدولي الانساني ومواثيق واعراف حقوق الانسان، يمارس العقاب الجماعي بحق الشهداء وعائلاتهم، ينتهك القيم الدينية والأخلاقية، يستخدم الشهداء للانتقام والمساومة والمقايضة، يعذب الاموات بعد الموت، يعذب شعبا ووطنا واغنية.
وظل سالم خلة يصرخ، بين يديه وثائق تشير الى ارتكاب سلطات الاحتلال جرائم حرب بحق الشهداء المحتجزين، سرقوا اعضاء من اجسادهم وتاجروا بها، اعدموهم ميدانياً وهم احياء او جرحى ينزفون، أرادوا اخفاء آثار ودلائل الجريمة، راهنوا على الزمن كي يطفئ انفاس لشهداء ولهيب الموت، راهنوا على التراب كي يذيب اجسامهم فتضيع في النسيان، وظل يصرخ، يحمل صور الشهداء، يعلق ابتساماتهم على حائط بيته، يتبادل معهم الاحاديث والمواعيد، لا يهدأ ولا ينام.
سالم خلة ابو زياد كان يصرخ بين القبور، حدد يوم 27/8 من كل عام يوما وطنيا وعالميا لاسترداد جثامين الشهداء، بدأ العالم يسمع صراخ ابو زياد، وبدأ يعرف ان هناك دولة هي الوحيدة في منطقة الشرق الاوسط تعاقب الأموات بعد الموت وهي اسرائيل، وهي التي شرعت قانون احتجاز الجثامين، رأيت سالم في المسيرات والندوات والمؤتمرات، يوزع اسماء الشهداء المحتجزين على الحاضرين، يدعو كل المؤسسات المحلية والاقليمية والدولية الى التحرك لاطلاق سراح الشهداء الفلسطينيين، وظل يصرخ لوضع حد لاستهتار اسرائيل بأنسانية الانسان وكرامته، وكان يقول: دافعوا عن حياتكم ومماتكم، من يسحق موتك يسحق ظلالك في الحياة.
وظل سالم خلة يصرخ، يفتش عن الشهيد الاسير انس دولة الذي استشهد في سجن عسقلان عام 1980 خلال الاضراب عن الطعام ولازال جثمانه محجوزا، نبش المقابر والتقارير والشهادات والعظام والرفات، فتش ملابسه وحكاياته واحلامه، كان يسأل عنه الرياح والطيور والامطار، وقد خذلته الفصول والحروب واتفاقيات السلام، لا الحرب اعادت الشهداء الى ذويهم ولا السلام فك اسرهم، واستمر الصراع على هوية الموت، وما احتجزته اسرائيل في عهد السلام اكثر مما احتجزته من شهداء في عهد الحروب، للسلام الاسرائيلي رائحة موت ابعد من الفقدان واقرب الى الهزيمة.
ولازال يصرخ في وجه اعضاء البرلمان الاوروبي خلال زيارتهم لفلسطين، كيف تسمحون لدولة اسرائيل وبرلمانها ان تشرع قوانين عنصرية تعسفية تفضي باحتجاز جثامين الشهداء؟ كيف تقبلون ان تصبح قيم ومبادئ حقوق الانسان عرضة للمساومة والابتزاز؟ وقال لهم اسرائيل تلاحق الموتى وصدى الموت، تلاحق عائلات الشهداء، تهدم بيوتهم، تضع عراقيل امام تحركهم، تمنع اقامة بيوت عزاء للشهداء خاصة في القدس، وتفرض التقييدات والاشتراطات على عمليات الدفن و الغرامات، اسرائيل تلاحق حتى المشاعر والعواطف، تلاحق دموع الأمهات وحسرتهن، فالموت لا يوجع الاموات بل يوجع الأحياء كما قال محمود درويش، وظل ابو زياد يصرخ: ان تقاعس المؤسات العالمية وصمتها على جرائم الاحتلال لهو اشد من الموت ذاته.
لازال سالم خلة يصرخ، يقف على بوابات سجون الاحتلال، يحمل اعلاما فلسطينية وتوابيتاً واكاليلاً من الورود، لم تفرج اسرائيل عن جثامين 7 شهداء ارتقوا في السجون عام 2020، اغلقوا عليهم بوابات السجون وبوابات المقابر، لم تشفع لهم سنواتهم الطويلة المرهقة التي قضوها خلف القضبان، لم تشفع لهم الأدانات الكثيرة التي اتهمت اسرائيل واطبائها ومحققيها بقتل الأسرى عمداً داخل السجون، فالأسرى لازالوا في القيد احياءً وأمواتاً، لم ينقذهم أحد، ظلوا يختنقون داخل اوجاعهم وامراضهم شهيداً يودع شهيدا ولكنهم لا يخرجون من وراء الجدران.
سالم خلة لازال يصرخ بين القبور، يتنقل من مقبرة الى مقبرة، اسرائيل لم تكتف باحتجاز شهداء فلسطين وانما تشن عدوانا سافرا على حقوقهم ومكانتهم القانونية، تحتجز اموال الشعب الفلسطيني تحت حجة اعانة ورعاية السلطة الفلسطينية لعوائلهم الثكلى والمنكوبة،اسرائيل لاحقت الشهداء بالقتل وهم احياء وتلاحق شرعية نضالهم وهم اموات، وتعتبر ان الحرب على الشعب الفلسطيني لن تضع نهايتها الا باستسلام الشهداء وبالاعتراف الفلسطيني انهم ارهابيون ومجرمون، لقد نزعوا عنهم الحياة ويريدون ان ينزعوا عنهم معاني التضحية التي يمثلها شعب يناضل ويقاوم من اجل الحرية والاستقلال.
رحل سالم خلة ابو زياد، انتهت حياته بنهاية هذا العام 2020، عام الوباء وعام الجريمة المنظمة لدولة الاحتلال الاسرائيلي، عام الضم والتطبيع وصفقة القرن التآمرية والاستيطان، لم يستطيع ابو زياد ان يشاركنا اعياد الميلاد المجيدة في ساحة المهد في بيت لحم، لم يقرع معنا الاجراس ويضيء الأشجار، لكن روحه تصلي معنا، الروح الحرة أبدا لا تموت.
سالم خلة لازال يصرخ
ام الشهيد لا تنام..
والليل والسماء..
الشهداء يمدون اعناقهم من بين ألوف المقابر..
ينتظرون شمعة تضاء..
وقبرا شاهداً انهم في القلب أحياء!
m.a