في استذكار الانتفاضة
نشر بتاريخ: 2020-12-10 الساعة: 08:10د.عاطف أبو سيف
تظل الانتفاضة الأولى التي تحل ذكراها بعد يومين (التاسع من الشهر) واحدة من أهم إبداعات النضال الفلسطيني، وعلامة فارقة في تاريخه. لقد شكلت بما اشتملته من فعل يومي مزدحم بالتفاصيل وعفوية، وتنظيم مركب في نفس الوقت، انطلاقة جديدة لإعادة صوغ جملة من الأهداف تصلح لأن تشكل قاعدة لتطلعات الجماهير في ظل التحولات الكبيرة التي أصابت القضية الوطنية. ومن المؤكد أن كثيراً من تلك العبقرية التي تميزت بها الانتفاضة كمنت في عدم وجود هذا التخطيط المسبق للفعل وللاشتباك. إن جوهر هذه العبقرية يكمن في أن الفعل اليومي جاء ترجمة لمقولة: إن الجماهير هي من يقود. وحين تقود الجماهير فهذا لا يعني أن الأمور اسير بتخبط وعدم اتزان، بل يعني أن ثمة فعلاً يتم تطوير أدواته وفق حاجات الميدان.
الآن وبعد مرور ثلاث وثلاثين سنة على اندلاع المواجهات البسيطة بين الفتيان والجنود في أزقة المخيمات والمدن والقرى، يمكن النظر كما في كل مرة نتذكر فيها شيئاً ما يشبه المعجزة، المعجزة التي لا تستعصي على الفهم، بل تقدم مقاربة جديدة لكيفية إبداع الجماهير لطرق خلاقة؛ من أجل ضمان التعبير عن حقوقها والذود عن تلك الحقوق. لم يكن من المتوقع تقديم أي تنبؤات مسبقة لكل ما جري، وإن كان ثمة إرهاصات عديدة وأحداث أقل حدة وبلا استمرارية أشارت إلى كرة ثلج متدحرجة ببطء، لكنها لم تشر إلى أن هذا سيكون شيئاً متكاملاً.
وجوهر الانتفاضة الأولى هو هذا التكامل المذهل في اتجاهين أو ضمن نسقين. الأول يتعلق بقدرة الجماهير على قيادة تلك الانتفاضة وضمان استمراريتها من خلال ابتداع الطرق الخلاقة للفعل اليومي. فأنت كنت تشاهد انخراط الجميع في الفعل الانتفاضي بلا كلل. وبقدر ما كنت ترى تكراراً يومياً لحالة التكامل تلك، بقدر ما كنت تشعر بالتجديد اليومي في تنفيذ الفعل. وكان جوهر كل ذلك استمرارية الانتفاضة. فالانتفاضة لا يجب أن تموت، والشمعة يجب ألا تنطفئ. هكذا كان التكامل المجتمعي الذي جعل المسؤولية فردية لضمان استمرار الفعل وعدم تأثره بحدة القمع الذي كانت تقوم به قوات الاحتلال. وربما لا يوجد أكثر وضوحاً في استذكار الانتفاضة من الانخراط الجماهيري الشامل في تنفيذ الفعاليات. فالكل يشارك والكل يقوم بدوره، وهو الدور الذي يبتدعه بطريقته. فكل حوار بين امرأة عجوز وجندي هو إبداع جديد تتجلى فيه الإرادة، وكل مرة يقذف فيها طفل أعزل دورية الجنود بالحجارة ببراءة وغضب هو إبداع لا يتكرر. فكل مرة تتم فيها المواجهة هي مرة جديدة، إبداع جديد. من هنا فإن هذا الانخراط كان يعني أن الجميع يعرف دوره ولم تكن ثمة حاجة إلا لقدر ضئيل من التوجيه. وهذا بدروه حافظ على استمرار تلك العفوية المنظمة التي تجعل الفعل الثوري اليومي عملاً متجدداً وفي نفس الوقت قادراً على دفع عجلته الذاتية إلى الأمام.
أما النسق التكاملي الثاني فتجلى في تكامل القيادة الفلسطينية مع جماهير شعبها في الداخل. هذا النسق تجلي في توجهين. الأول حافظ على تلك العلاقة بين القيادة الشرعية وبين الفعل اليومي من خلال تشكيل أطر قيادية ميدانية مرنة وقادرة على الاستجابة للتطورات الميدانية، وتكون من بين الجماهير ومنخرطة معها وتمارس الفعل الثوري مثلها مثل الجميع، والثاني من خلال توجيه الأهداف الكفاحية للفعل اليومي والمتمثلة في وضع مطالب سياسية تجعل من هذا الفعل قتالاً من أجل هدف. أما فيما يختص بالتوجه الأول، فإن تشكل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة واللجان الشعبية لقيادة الفعل الكفاحي في كل المناطق كان العلامة الأبرز في ذلك. وبارتباط تلك القيادة الميدانية للانتفاضة بالقيادة السياسية والثورية في منظمة التحرير تم خلق حالة من توحيد النضال الوطني الفلسطيني حتى لا تسير الانتفاضة في واد وبقية أشكال النضال الفلسطيني خارج الضفة الغربية وقطاع غزة في واد آخر. هكذا فإن تلك العلاقة بحد ذاتها كانت جزءاً من الفعل المنتفض. وكان ثمن ذلك غالياً؛ إذ قدمت القيادة الفلسطينية واحداً من أبرز قيادتها ومطلقي شرارة ثورتها خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتيل وهو يكتب آخر رسائله لقيادة الانتفاضة، ويحثهم فيها على الاستمرار تحت شعار «الانتفاضة مستمرة». بجانب الدعم المستمر من أجل تمكين الجماهير من الصمود ورعاية الجرحى وأهالي الشهداء حتى لا يكون الكفاح اليومي عبئاً على حياة المواطنين.
فيما تمثل التوجه الثاني في تطوير قيادة منظمة التحرير لبرنامج وطني يجعل من مطالب الجماهير بوصلة نحو تحقيق ولو القليل من الأهداف الوطنية الكبرى. جاء إعلان الدولة الشهير في الخامس عشر من تشرين الثاني 1988 استجابة حية من أجل جعل الفعل المنتفض ذا مطالب محددة. فالشعب الذي يخرج شيوخه ونساؤه مع أطفاله وشبانه عزلاً لمواجهة الجنود المدججين بالسلاح ليسوا مجموعة من الغاضبين الذين ملوا الألم والمعاناة التي يسقيهم إياها الاحتلال، بل هم مجموعة بشرية هي جزء من شعب أكبر له مطالب سياسية محددة، ويتطلعون إلى التخلص من الاحتلال وبناء دولتهم المستقلة. هكذا ببساطة شكّل التدخل السياسي للقيادة الفلسطينية جزءاً من العملية الكفاحية التي تجري يومياً على الأرض.
تذكرت الكثير من تلك التفاصيل اليومية للانتفاضة وأنا أسير في مخيم جباليا قبل يومين حيث ولدت الانتفاضة، وحين استشهد الجار والصديق حاتم السيسي ونحن نحبو على عتبات العمر. تذكرت كيف كنا نصفق بحرارة وعفوية حين سمعنا ياسر عرفات يعلن قيام دولة فلسطين، كيف كنا نصغي للراديو ونغضب حين «يشوش» لأننا لا نتمكن من سماع عبارة الزعيم كاملة. تذكرت الحزن الذي لفنا يوم استشهد خليل الوزير وكيف حفرنا على جدران البيوت بآلات حادة تاريخ استشهاده. تفاصيل عادت بحيويتها وعفويتها التي تميزت بها الانتفاضة التي جرى شلالها الأول في هذه الأزقة قبل ثلاث وثلاثين سنة.