الرئيسة/  مقالات وتحليلات

مرة أخرى عن متلازمة التحرر والبقاء

نشر بتاريخ: 2020-12-01 الساعة: 09:55

مهند عبد الحميد

استكمالاً للحوار مع الصديق الرفيق عبد المجيد حمدان (أبو وديدة)، أعيد التأكيد على أهمية الثورة الداخلية التي تعزز مناعة وقوة الشعب الفلسطيني على أرض وطنه. الثورة الداخلية التي طرحها في الصحة والتعليم والاقتصاد وأشكال النضال، ولا أظنه يختلف معي في مد الثورة إلى منظومة القوانين والحق العام وحقوق الإنسان، والحريات والديمقراطية. هذه العناوين التي شرحها في كتاباته السابقة. إن إعطاء أهمية لإعادة البناء الداخلي تعبر عن حاجة المجتمع والشعب الفلسطيني في الداخل والخارج إلى ربط التحرر من الاحتلال الكولونيالي بالتحرر المجتمعي، من خلال تفكيك القيود الداخلية الغليظة التي تكبح التطور والحرية والعدالة والمساواة والعلمانية والعقلانية وتضعف الصمود وتؤخر التحرر من الاحتلال. قد يكون ربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي ليس جديداً، فقد سبق لرواد التنوير والنهضة الفلسطينيين والعرب في النصف الأول من القرن العشرين ان ربطوا التحرر من الاستعمار بالتحرر من التخلف. ثم أعادت تنظيمات اليسار واتجاهات علمانية أخرى تبني قضايا اجتماعية، لكنها سرعان ما تحللت من المهمة عملياً، وبرز للعيان طغيان الوطني على الاجتماعي، نعم، بقي التحرر الاجتماعي حبراً على ورق مع وجود استثناءات ضعيفة ومحدودة التأثير.  

يقول الرفيق أبو وديدة إن التيارات الوطنية الفلسطينية الثلاثة: القومية، الإسلامية، الشيوعية، لحل القضية الفلسطينية، قد طوتها حركة التغيير الجارية عالمياً، إقليمياً، ووطنياً. ربما ينطبق هذا التقدير على الاتجاه القومي واتجاه الإسلام السياسي واي اتجاه شمولي آخر، لكن التيار الوطني العلماني الفلسطيني الذي يندرج في إطاره اليسار المأزوم حالياً، لم يُطوَ موضوعياً لأنه يلتقي كأطروحات ومواقف مع المنظومة العالمية (الحريات وحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية) المعبّر عنها في المعاهدات والاتفاقات والقانون الدولي، وما يزال هذا التيار يملك حظوظاً من الاستمرارية والتقدم إذا ما قام بالتجديد وإعادة البناء. إن أي قوى تغيير، المقصود هنا، القوى التي تضطلع بالثورة الداخلية، لا تستطيع فِعْلَ ذلك، بمعزل عن فكر تحرري عقلاني ديمقراطي، ولا يوجد غير هذا التيار سواء كان ببنية جديدة او بنية معدلة او بنية تمزج الجديد مع الأجزاء الحية من القديم. كما قال أبو وديدة نحن بحاجة إلى تغيير جذري في تفكيرنا، تخطيطنا، نشاطنا، نضالنا، وفي وسائل عملنا.

نعود الى الفكرة الأساسية عند ابو وديدة التي ترى أن التحرر الوطني تراجع لحساب الصراع من أجل ضمان البقاء. الفكرة التي تستحق مواصلة النقاش هي خطر التهجير الذي قد يتخذ أشكالاً أخرى كما يقول خبراء إسرائيليون، من نوع حصار وتضييق شروط العيش وتدمير مقوماته على الأرض، ونهب الموارد وغير ذلك من قمع وترهيب، ما يدفع المواطنين الى ترك المكان. هذا ما حدث في مناطق الأغوار وفي أحياء مدينة القدس، الإجراءات الإسرائيلية أدت الى إزاحات سكانية الى مناطق داخلية (الرام وكفر عقب) والى إخراج مخيم شعفاط من سلطة البلدية. لا ننسى حزب رحبعام زئيفي الذي تبنى «الترانسفير» الهجرة الطوعية للفلسطينيين. ولا يغيب عن ذهننا أن صفقة القرن في ملحقاتها غير المعلنة تضمنت برامج استيعاب للفلسطينيين، في سيناء وفي السودان ومناطق عربية أخرى. اما التهجير القسري فهو غير مستبعد في حالة الزعم الإسرائيلي بوجود خطر وجودي يهدد حياة الإسرائيليين. لقد مررنا بلحظة سياسية تنطوي على ممارسة ذلك النوع من التهجير القسري، أثناء الغزو الأميركي للعراق 2003، وبعد سلسلة عمليات التفجير الفلسطينية التي استهدفت مراكز مدن وأهدافاً مدنية إسرائيلية أوقعت بها خسائر بشرية كبيرة نسبياً. لكن حكومة شارون لم تقدم على التهجير القسري لأسباب دولية وإقليمية. ولحسن الحظ فإن التنظيمات وبخاصة حركتي حماس والجهاد الاسلامي وكتائب الأقصى توقفت عن هذا النوع من العمليات. وكان الشيخ القرضاوي الذي أفتى دينياً بجواز القيام «بالعمليات الاستشهادية» قد عَدَلَ عن ذلك بفتوى لا تجيز القيام بها في الوقت الحالي.

ما تقدم يسمح بالقول إن تفادي هذا الخطر ممكن باتباع أشكال نضال ملائمة وبالثورة الداخلية التي تحدث عنها أبو وديدة، وبتعزيز النضال ضد الانتهاكات الاسرائيلية وبخاصة الاستيطان وجرائم الحرب على صعيد كوني، وبإقامة تحالفات مع نخب سياسية وثقافية ومنظمات حقوقية اسرائيلية مناهضة للاحتلال والعنصرية. وكل هذا يتم تحت هدف التحرر والخلاص من الاحتلال وتقرير المصير بما في ذلك إقامة الدولة المستقلة.

القضية الثانية التي كانت محط خلاف مع صديقي أبو وديدة هي الدولة ثنائية القومية. يقول في هذا الصدد : ستواجه إسرائيل ثلاث خيارات : 1- ضم الكتلة الكبيرة من الضفة ومنحها حقوقاً متساوية ونشوء دولة ثنائية القومية تطيح بحلم دولة يهودية نقية ويبشر بتفوق عددي فلسطيني. 2- دولة أبارتهايد عنصرية تقربها من مصير دولة جنوب افريقيا العنصرية. 3- إخراج مخطط الترحيل القسري والشامل لأهل الضفة. المشروع الإسرائيلي الذي يحظى بتأييد المؤسسة الأمنية ومعسكر اليمين القومي والديني ومعهم أزرق أبيض يجمع بين الضم المُرسم أوغير المُرسم، والابارتهايد، ومستوى من التهجير الصامت. إذا كان فلسطينيو 48 لا يحظون بحقوق متساوية منذ 72 عاماً، فلم تبن قرية او مدينة فلسطينية واحدة، ولا تتساوى المجالس البلدية والمحلية الفلسطينية في الموازنات مع نظيراتها الإسرائيلية، ولا يجوز للفلسطينيين امتلاك أراض، ولا توجد حقوق سياسية وتاريخية (قانون القومية ومنظومة قوانين عنصرية شطبت تلك الحقوق). وإذا كان المقدسيون المضمومون لدولة الاحتلال لم يتجاوزوا مكانة إقامة دائمة بعد 53 عاما من ضم مدينتهم، ولا تنطبق الجنسية الإسرائيلية عليهم، فكيف ستسمح إسرائيل بنشوء دولة ثنائية القومية يتمتع فيها الفلسطينيون بحقوق متساوية! وإذا كان الهدف المركزي للمشروع الاستيطاني هو تقويض بناء دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية، فكيف سيسمح أصحاب هذا المشروع بدولة ثنائية القومية تطيح بحلم الدولة اليهودية النقية وتبشر بتفوق عددي فلسطيني؟ هل تتراجع إسرائيل لمجرد قيامها بالضم عن دورها الاستعماري الإقليمي والعالمي وعن الامتيازات الهائلة للدولة ومواطنيها اليهود؛ وتمنح نقيضها الفلسطيني أفضلية تمكنه من القبض على زمام الأمور. ثمة تناقض في عرض خطر داهم يقصي ما تبقى من شعب فلسطين من جهة، وفي الحل الذي يمنح نفس الشعب الحقوق المتساوية في دولة ثنائية القومية من جهة أخرى. الفوز الفلسطيني بالبقاء لا يكفي لتحقيق هدف نوعي يطيح بالوظيفة الكولونيالية لإسرائيل، بل يحتاج الى ميزان قوى إقليمية ودولية تفرضه. ثم لماذا يجري إسقاط حل الدولة الفلسطينية على أراضي العام 1967 التي تحظى باعتراف أكثرية مطلقة من دول العالم، وبجزء من المجتمع الإسرائيلي، ويقدم الحل الذي لا يعترف به أحد ولا يوجد ما يسنده قانونياً وسياسياً.

m.a
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024