الرئيسة/  مقالات وتحليلات

تفاؤل سياسي

نشر بتاريخ: 2017-08-06 الساعة: 13:16

بقلم عماد الاصفر- لدي تفاؤل سياسي، لا يستقيم مع اعتباري التفاؤل غباء، ولا يصمد حين أنطق بشواهده امام الاصدقاء، وَلكنه يبدو معقولاً حين أكتبه، وشتان ما بين المنطوق والمكتوب، لاحظو معي مثلا، كيف تبقى القصيدة العظيمة للنخبة فقط، ولا تصير على السنة الناس جميعا الإ حين تُغنى، وكيف تتحول كلماتها حينذاك إلى معين يستقي منه الناس كيفية التعبير عن مشاعرهم، بل أحيانا الى مكتبة نستخرج منها هذا الشعور أو ذاك لنتقمصه.

هذا التفاؤل لا يُلحن ولا يُغنى، ويستعصي على محاولات الشحن بالعواطف، والتزيين بحركات الجسد والتتبيل والتبهير بالتلوين الصوتي، وهي أدوات الخداع التي تسوق لنا كل باطل، وتزرعه في دواخلنا ليصير مرجعا نحكم به على الأشياء والناس، دون معاودة فحصه للتثبت; ما اذا كان لا يزال صالحا كمرجع ام لا؟.

طبعا بدأتم في استحضار المقصلة من مكتبكم التراثية لتقولوا أن التفاؤل لا يعني الإتكالية والركون إلى القدر، ولعلكم بدأتم في البحث عن مقولة (اعقلها وتوكل)، وتسألون أنفسكم إن كانت حديثاً نبوياً شريفاً أم قولاً مأثوراً، بعضكم سيذهب إلى تراثه السياسي النضالي ليبحث عما يستلزمه ايمان الثائر بحتمية النصر

ابحثوا جيداً، أنا متفائل ولست غبياً، ولن أرضى بنصف تفاؤل، ولا بتشاؤل، ولا يزعجني شيء بمقدار ما يزعجني أنني مجبر في كل مرة على تعداد وشرح مبررات هذا التفاؤل، فلطالما كنت أعتبر أن الهزائم والأخطاء هي فقط ما يحتاج إلى التبرير. 

مرد هذا التفاؤل أسباب طبيعية تعرفونها جميعاً ومنها؛ أننا أصحاب حق طبيعي وتاريخي، وأن الإحتلال لا يترك لنا فرصة لكي ننسى عداوته، فهو يقوم بواجبه اليومي في تذكيرنا بهذه العداوة وبحقوقنا، وإلى جانب هذه الأسباب التي تعمل كقوانين بشكل أعمى، أسباب أخرى شخصية تأخذ طابع المقارنات النظرية.

ومن هذه الأسباب الشخصية أنني كنت شاهد عيان على موت أفكار عالمية وخراب أحزاب متينة بل وانهيار دول كانت كبيرة ثم أصبحت بين ليلة وضحاها هباءً منثورا، ورأيت مٌنظري هذه الافكار ومناضلي تلك الاحزاب ومسؤولي تلكم الدول ومواطنيها ايضاً، في حالة من الفوضى والانكفاء والارتداد بل والكفران بالوطن، ولا أستطيع أن أرى مهما زودت عيار التشاؤم في نظرتي لوضعنا، شبيها لهذه الحالة لدينا. 

كنت شاهداً على انهيار جدار برلين، وتتبعت آنذاك على وجوه وقلوب وعقول الكثيرين أثر موت الايدولوجية الشيوعية وخراب دولها وانهيار أحزابها وردة مناضليها نحو اقصى اقصى النقيض، وتتبعت أيضا ردة القومية في العراق وسوريا نحو الطائفية البغيضة، وأعرف تماما أن الديكتاتوريات كانت أرحم بشعوبها من حكوماتها اللاحقة وقواها الفاعلة.

من شهد ذلك لا شك سيستصغر كل جلل، مؤكداً أننا لم نكن مؤهلين للزوال والشطب ولكننا تمكننا من تحويل وجودنا من مجرد وجود إلى حضور، ويفهم ذلك من يعرف التاريخ وقياس السنوات وشروط وقوع التحولات الكبرى.

ومن الأسباب الأخرى التي تأخذ طابع المقارنة تلك المتعلقة بالمآسي الأعمق التي مرت بنا خلال المسيرة الطويلة من مذابح ومجازر ونكبة وضياع للهوية والجغرافيا ونكسة فصراع مع الأنظمة على العيش والهوية والتمثيل وجواز السفر، إلى معارك كادت تكسرنا ثم اكتفت بأن أبعدتنا بعيداً جداً، ثم انشقاقات واختلافات جذرية في الرؤى فانشقاقات سياسية وجغرافية. 

لست متشائماً لإدراكي بمدى طول المشوار، وعظمة ما يحتاجه.  لست متشائما لأن ما يجري مخالف لمنطق التاريخ، ولأن التاريخ يصحح نفسه ولو بعد حين، وهذا ليس مدعاة للركون إلى الغيب وانتظار تصاريفه، وإنما مدعاة للعمل ونقد المسيرة ولكن دون ادمان جلد الذات ونقط.  كان ياسر عرفات يقول هذه الانتفاضة ستستمر موجة وراء موجة، لا اعتقد انه كان يقيس الموجات بالشهر والسنة والعقد او العقدين، وكان يقول رحمه الله الشعب الفلسطيني هو طائر الفينيق : جميل وقوي ومتجدد ، يحترق الى ان يصبح رمادا ثم ينهض من جديد أقوى من السابق وأجمل.

لقد احترقنا مراراً ولكننا كنا نتجدد دوماً، من ثورة القسام وعبد الرحيم الحاج محمد ورفاقهما، إلى عبد القادر الحسيني ورفاقه، ومن الشقيري الى ياسر عرفات فالى يومنا هذا.

لا تحسبوا ان هذه المسيرة كانت خالية من الاختلاف القاسي بين فلاح ومدني، ومن يناصر المانيا ومن يتحالف مع بريطانيا، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي.. وبين من يريد الاعتماد على الذات ومن يراهن على العروبة.

ولا تحسبوا أن رجال العصور السابقة لم يكونوا متحزبين وبأفراط في بعض الاحيان، ولا تحسبوا ان الأحزاب والفصائل السابقة كانت خالية من الخيانات والسقطات والانهزاميين، وسالمة من الانشقاقات سواء العمودية أو الأفقية والتحالفات القذرة.

لسنا استثناءً في التاريخ ولا في الجغرافيا، وكما قال الشاعر محمود درويش: كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء، فكل الثورات عانت ما نعانيه، ولكنها انتصرت وكتبت تاريخها كما تشتهي بعد أن نفضت عنه كل ما علق به من أوساخ وفيروسات.

من المهم في كثير من الأحيان النظر إلى الخلف ببعد النظر وطول الذاكرة ومع ايمان بأن لا مجال للقفز ولا للضربات القاضية في صراعنا، وإنما للخطوات حتى لو كانت قصيرة شريطة أن تكون الى الامام.

فإلى كل من يشعر أن الوضع الفلسطيني البائس حالياً، بائسٌ جداً وغير مسبوق أقول: أنت غلطان يا صديقي، لو كنت عايش ايام النكبة او النكسة شو بيكون شعورك؟ لو عشت أحداث أيلول والأحراش بعد ما شميت نفسك في الكرامة شو بيكون شعورك؟  لو خرجت من بيروت على الباخرة أو عشت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد ما اسست جمهوريتي الفاكهاني والعرقوب شو بيكون شعورك؟  لو عايشت الانشقاق وقصف المخيمات على أيدي الحلفاء الي كبرتهم بايدك شو بيكون شعورك؟  لو أنك ترحلت من الأردن لسوريا للبنان للعراق لليمن لتونس للجزائر لمالطا شو بيكون شعورك؟  لو أنك عايشت الضغط الدولي وتجفيف الموارد كعقاب على موقفك في حرب الخليج بعد ما ازدهرت انتفاضك شو بيكون شعورك؟  لو أنك اكتويت بنيران الفشل في تشكيل السلطة في البدايات شو بيكون شعورك؟  لو أن مجلسك التشريعي الأول ما رضي حدا يشاركك فيه واستمر ١٠ سنوات وبعدين هجموا عليه واخذوه بديمقراطية مقتنصة في لحظة ضعف، شو بيكون شعورك؟  لو أنك شفت انتفاضتك الثانية بتنتهي بجدار واجتياحات وحصار لرئيسك وغياب تام لسلطتك شو بيكون شعورك؟  لو أنك عانيت من الفلتان الأمني والغياب المطلق للقانون بعد ما كنت بتقنع العالم بجدارتك وحقك في الدولة شو بيكون شعورك؟ ولو ،،، ولو ،،،، ولو ،،،، وشو بيكون ،،،، وشو بيكون ،،،، وشو بيكون.

قصتنا طويلة جداً ،،،، ووضعنا الحالي صعب جداً بس كان في أصعب منه، قصتنا طويلة وعشان هيك كان أبو عمار دايما يقول لامثالي وامثالكم اللي تعب يروح ويبعثلي اولاده.

برغم كل هذا ما زلنا نحمل على أكتافنا بعضا من فكر وجزءاً من تنظيم وواجباً لا يسمح لنا بالتخلي عنه حتى لو اردنا ذلك، فهل يكمن السر في مميزات فلسطينية خاصة ام في طبيعة عدونا ؟ 

أعتقد أننا لسنا استثناء لا في السلب ولا في الإيجاب، نحن طبيعيون عاديون، الإستثناء المقيت هو  في عدونا، في غطرسته في حجم إجرامه في طبيعة احتلاله في تفوقه بشتى المجالات. 

نحن عاديون وطبيعيون وساذجون إلى الدرجة التي ننظر فيها إلى هذا الاحتلال فنلاحظ تفوقه الهائل من غير أن يخطر ببالنا أننا قد نتفوق مثله يوماً ما، لا أحد فينا يفكر بذلك، نحن فقط نفكر بالتخلص من الإحتلال ولكن من دون مقاربة تفوقه في أي مجال غير العسكري.

نحن طبيعيون وعاديون وساذجون إلى الدرجة التي نسخر فيها من كل من يجرأ على المقارنة  أو البحث عن مجال يمكن التفوق فيه. 

 

نحن عاديون وطبيعيون وسطحيون بما يكفي لتحويل كل إنجاز الى مسخرة، نحن عاديون لدرجة أننا نمر بعبارة شاعرنا محمود درويش : ما أصغر الدولة ،،،،،، ما أوسع الفكرة، ولا يتوسع فكرنا بل يضيق.  

نحن عاديون وبذاكرة قصيرة والذاكرة القصيرة آفة وكثير من الصحافات آفات. نحن عاديون الى درجة اننا لا نجيد التفاؤل. نحن عاديون إلى درجة أننا قد نُفتن بجلادنا، نحن عاديون إلى درجة أننا لا نبحث ولا نفكر بالبحث عن مجال للتفوق،  وأنا متفائل لأن كثيرين بدأوا يقتنعون بأننا طبيعيون وعاديون ولسنا استثناءً.

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024