الرئيسة/  مقالات وتحليلات

صفحة غزاوية مطوية

نشر بتاريخ: 2017-10-03 الساعة: 10:43

عماد الأصفر ابن النار، الذي تجرّع مع حب غزة مرارة الرحيل عنها، وربط على رأسه عصبة حمراء تحمل أسماء محطات ومواعيد الرحيل، تحول كل اصبع من اصابعه الى ناي حين عاد اليها.

في محطة رحيله العراقية، اهدى نسخة من ديوانه الاول "المعركة"، ونسخة من رواية الأم لمكسيم جوركي، لتلميذ عراقي يطحن سعف النخل الأخضر ويعجنه ويصنع منه أقراصا يجففها تحت الشمس ويأكلها، ولكن التلميذ مات.. . مات ولم يقرأ الرواية... وضع سعفة من النخل وسط الكتاب ومات...

كان موعودا بجولات اخرى من الموت، خلال الغارات الاسرائيلية، التي سبقت مشروع توطين لاجئي غزة في سيناء، وخلال المظاهرات والصدامات مع الجنود المصريين رفضا لهذا المشروع، انطلق الشاعر معين بسيسو ورفاقه وطلَّابه في مظاهرة اولى وقاموا بتجريد جنود المباحث من بنادقهم.

في اليوم التالي، كان مع طلَّابه، لكن ليس في الصف وانما في سجن غزّة المركزيّ. بعدها تحولت نشرة "الشرارة" الى منشور ضد التوطين، وكذلك الحصص الدراسية.

وفي التظاهرة الثانية، حُمِلَ بسيسو على الأكتاف. وارتفع الهتاف: "لا توطين ولا إسكان، يا عملاء الامريكان"، تقدَّمت التظاهرة، أولها في شارع عمر المختار، وآخرها في حيِّ الشجاعيّة.

وفجأة انطلق الرصاص من خلف شاحنة عسكرية .. فسقط حسني بلال، عامل النسيج في المجدل واللاجئ إلى غزة. هشَّمت الرصاصات رأسه وصدره وفخذيه. احترقت الشاحنة العسكريَّة وهرب رجال الشرطة، واندفع الرفيق يوسف اديب طه لرفع العلم الفلسطيني فوق مقر الحاكم العسكري فأصابته رصاصة قاتلة.... ارتفعت الأصابع وفوقها دم العامل المجدلاوي الغزي. في هذه اللحظات هب معين بقميص ممزق وصدر مشرع للرصاص وهو يهتف:

الدم: دم دم ... سال الدم ... الدم: دم دم , عاش الدم

يا فم حسني بلال ... الدم سال وقال

الموت للرجعية ... الموت للاحتلال

بعد أيام وقف معين بسيسو فوق حائط ليعلن باسم اللجنة الوطنيَّة العليا، سقوط مشروع توطين اللاجئين.

الحكومة المصريّة لم تكن لتسمح بمرور هذه التظاهرات دون عقاب، ففي منتصف ليل 9 آذار 1955، بدأت حملات الاعتقال، وجلس مكبلا في إحدى العربات العسكريّة محمد يوسف النجار، وفي ثانية فتحي البلعاوي، وكان بسيسو في الثالثة. مضت بهم العربات إلى سجن مصر العموميّ.

نعم لنْ نموتَ، ولكننا سنقتلعُ الموتَ من أرضنا

هناكَ... هناكَ... بعيداً بعيدْ... سيحملني يا رفاقي... الجنودْ...

سيُلقون بي في الظلامِ الرهيب سيُلقون بي في جحيمِ القيودْ

نعم لنْ نموتَ، ولكننا…. سنقتلع الموت من أرضنا

هذه القصيدة كتبها بسيسو يومها في العربة العسكرية وتحولت بعد ذلك الى نشيد في كافة الزنازين.

في أحد عشر دفترًا من كتابه "دفاتر فلسطينيَّة" يروي ابن حيِّ الشجاعيّة، مذكّراته عن أحداث هذه الهبة ويوميّاته في السجون المصريَّة، حيث قضى ستة اعوام على فترتين.

كانت ماكينة الحلاقة تحرث رؤوس المعتقلين، وكانت الكرابيج المصنوعة من اسلاك الهاتف المجدولة بعناية تحرث ظهورهم، وكنت اتخيلها لا تحرث الا ارض الوطن ولا ترسم الا خارطته على ظهورنا.

أنا لا أخاف من السّلاسل فاربطوني بالسلاسل

من عاش في أرض الزلازل لا يخاف من الزلازل

لمن المشانق تنصبون لمن تشدوّن المفاصل

لن تطفئوا مهما نفختم في الدّجى هذي المشاعل

الشعب أوقدها وسار بها قوافل في قوافل

لم يكن مسموحًا للفلسطيني غير تدخين أصابعه، رائحة البول تملأ الزنزانة، تريد أن تفعل شيئاً، فتبدأ باكتشاف جدران الزنزانة وبابها الحديدي. هذه هي جزيرة الفلسطيني: أربع شجرات من الطوب الأصفر المدهونة بالشيد الأبيض، والسماء هي باب الحديد.

تمَّ تقديم عرض يقضي بالإفراج عنهم، ولكن دون التفكير بالعودة لغزّة، رفضوا ذلك تمامًا، وأعلنوا إضرابًا عن الطعام استمرَّ الى ان تم الاتفاق على الإفراج عنهم على دفعات، وإعادتهم جميعًا إلى قطاع غزة.

ولم يَطل الأمر كثيرًا حتى عاد بسيسو إلى السجن الحربيّ برفقة زوجته صهباء البربري، وكانت أول فلسطينيَّة تدخل السجن الحربيّ، قضت فيه أربعة أشهر في زنزانةٍ انفراديَّة، ثم رُحلت إلى سجن النساء في القناطر الخيريّة.

وضعوا كلَّ معتقل في زنزانة انفراديَّة، وحده وجَردل بول فقط. في اليوم الثلاثين، سُمح لهم بحمل جرادل البول خارجًا لإفراغها وغسلها. يومها، أمسكوا بالهواء، ورأوا الشمس.

عند طلوع الفجر..... ساقاومْ...

ما زالَ في الجدارِ صفحةٌ بيضاءْ

ولم تذبْ أصابعُ الكفينِ بعدُ...

هناكَ من يدَقْ

برقيةٌ عبر الجدارْ

قدْ أصبحتْ أسلاكُنا عروقُنا

عروقُ هذه الجدرانْ...

دماؤنا تصبُّ كلُّها،

تصبُّ في عروقِ هذه الجدرانْ...

برقيةٌ عبرَ الجدارْ

قد أغلقوا زنزانةً جديدهْ

قد قتلوا سجينْ...

قد فَتَحوا زنزانةً جديدهْ

قد أحضروا سجينْ...

من السجن الحربيّ تم ترحيله إلى سجن الواحات. حيث يصارع المعتقل من أجل حبّة أسبرين، وحيث معظم المعتقلين مصابون بالدوسنتاريا وسوء التغذية، لم يكن مسموح لهم ارتداء الأحذية، كانوا يلفّون أقدامهم العارية بالخِرق أو بقصاصات الجرائد للسير فوق الرمال المشتعلة.

"نحن هنا للموت، ويجب ألّا نموت" هذا ما قاله المؤلف والمترجم المصري المعتقل فخري لبيب، لمعين بسيسو عند دخوله سجن الواحات. وكان على معين ورفاقه أن يفعلوا شيئًا، لكي يلفتوا انتباه الذين يمشون بأحذيتهم فوق الكرة الأرضية، فاعلنوا مع رفاقهم المعتقلين من الشيوعيين المصريين الإضراب المفتوح عن الطعام. في اليوم السادس عشر انتهى الإضراب بانتصار زهرة عبّاد الشمس على الكرباج.

في ليالي السجن المعتمة، حيث لا قلم ولا ورقة كان معين بسيسو يكتب بأصبعه في الهواء وحين يجد قلما كان ينقل ما كتب في الهواء على ورق السجائر. ذات يوم، زاره صلاح خلف (أبو إياد)، وهرَّب معه رسالة سياسية وقصيدتين مكتوبتين على ورق السجائر. كان ينام وهو يحلم بسكّة الحديد في غزّة.

أنا في المنفى أُغنِّي للقطار

وأُغنّي للمحطة

أيّ هزَّة

حينما تُومضُ في عينيَّ غزَّة

حينما تلمعُ أصواتُ الرِّفاق

حينما تنمو كغاب من بروق ورياح

 

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024